سيكون مفاجئاً لجمهور المقاومة في غزة أن يَعلم، يومَ استشهاد حسام أبو هربيد، أن قائد لواء الشمال الذي اقترن اسمه بالمنجزات الكبيرة، لم يتجاوز الـ36 عاماً من العمر. مئات الآلاف من الذين حجّوا إلى بيت عزائه من دون أن يعرفوه عن قرب، كانوا قد رسموا له في مخيّلتهم صورة كهل حكيم حازم بلحية بيضاء. «القائد الذي أهدته لنا السماء»، هكذا يصفه أحد رفاقه، لافتاً إلى أنهم لم يتخيّلوا أن يستطيع أحد ملء الفراغ الذي تركه اغتيال القائد بهاء أبو العطا في 12 تشرين الثاني 2019، لكن السماء تفضّلت بـ»أبو عبيدة»، الذي استطاع أن يكمل مسيرة سلفه على نحو مبدع وفعّال. «القائد الحازم، والأب والزوج الهادئ الحنون المتّزن»، بهذه الكلمات تتحدّث أم عبيدة عن زوجها الذي ولد في مدينة بيت حانون شمال غزة عام 1979. تقول: «كان معطاءً في بيته، وسخيّاً على معارفه وجيرانه على رغم بساطة وضعه المادي، وقد رتّب الأولويات في حياته، وكانت فلسطين والعمل على تحريرها يشغلان باله على الدوام».
كان ينشر بين إخوانه ثقافة الإيمان المطلق بقدرة الفعل المقاوم على الإنجاز (من الويب)

يستذكر ابن شقيقه، الدكتور محمد، عمّه، متحدّثاً عن حياة الكدّ والجلد التي عاشها مذ كان طفلاً في الصفّ الرابع الابتدائي، فقد اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي شقيقه الأكبر الشهيد نصر الدين، ليحمل هو على عاتقه مسؤولية عائلته. يروي محمد: «كان حسام يخرج للعمل في الساعة الـ 12 ليلاً مشياً على قدميه في الطرق الحالكة الكثيفة الأشجار، ليعمل في بيع المشروبات الساخنة للعمّال الذين يغادرون القطاع للعمل في الداخل المحتلّ، ويعود في الخامسة صباحاً، ثمّ يذهب إلى مدرسته، واستمرّ على هذه الحال حتى الصف العاشر الأساسي». يتابع: «كان أصغر المقاومين سنّاً حين انتمى إلى سرايا القدس عام 2002، وهو لم يتجاوز عمره الـ18 ربيعاً، وقد برزت سمات القيادة فيه مبكراً، فهو مبادر وسبّاق إلى ميادين المقاومة، وقد خاض هو ورفاقه أوّل اشتباك مسلّح عام 2003، عندما خرج للاشتباك مع قوة إسرائيلية خاصة كانت قد توغّلت للقبض على أحد رفاقه. يومها، أثخن فيهم، وعاد صباحاً إلى البيت، وخرج باكراً إلى جامعته، وكأنه لم يفعل شيئاً».
كان يؤمن بأن شكل المقاومة يجب أن يتحرّر من معادلة الحرب إلى الاشتباك المستمر


أَوْلى أبو هربيد مساحة واسعة للعلم في اهتماماته. تَذكر زوجته أنه دفعها إلى إتمام دراستها العليا في تخصّص تكنولوجيا المعلومات، وكان يسهب في الحديث معها عن كثير من التفاصيل التكنولوجية التي تخصّ مجال الاتصالات والتتبّع. تقول: «كان دائم الاطّلاع وغزير الثقافة، وقد تخرّج من قسم الدراسات الشرعية على رغم أن العمل المقاوم يحتلّ كلّ وقته، إلّا أن ثمّة متّسعاً دائماً في نهاره لمطالعة كتاب أو البحث عن معلومة». تضيف: «ذات يوم، اقترحْت عليه أن أستغلّ وقتي في جمع أطفال الحيّ وطلاب المدارس فيه لتقديم دورة مجّانية في اللغة الإنجليزية. يومها، برقت عيناه فرحاً، وقال لي سأكون أوّل طلابك، ولمّا أجريت له اختبار مستوى، وجدْته متمكّناً بشكل لا بأس به في اللغة الإنجليزية، فقلت له إن ما أنت عليه يكفيك، فأصرّ على أن أُخصّص له وقتاً لتجويد مستواه»
أمّا في الميدان، فيَذكر صديقه أبو العبد الحلبي أن أبو عبيدة كان يسخر بكلّ آلة البطش الإسرائيلية، وينشر بين إخوانه ثقافة الإيمان المطلق بقدرة الفعل المقاوم على الإنجاز، ولم يكن يغادر أيّ لقاء من دون أن يردّد لازمته التي يخاطب بها إسرائيل: «فَلْيَحمهم سلاحهم وأمنهم وزيفهم ووهمهم، فَلْيَحمهم كذبهم، من الصاروخ المنفجر». بالنسبة إلى أبو عبيدة، فإن فكرة المقاومة تعتمد على المشاغلة المستمرّة لا العمل الموسمي، وقد طبّق الرجل اقتناعاته التي ظلّ مُنظّراً لها طيلة حياته، فترك بصماته في المسيرة التي بدأها الشهيد أبو العطا، وواصلها هو بعد رحيل رفيق دربه، ثمّ واصلها رفاقه بعد رحيل قائدهم. يضيف الحلبي: «كان يؤمن بأن شكل المقاومة يجب أن يتحرّر من معادلة الحرب إلى الاشتباك المستمرّ، وقد تُرجمت اقتناعاته ميدانياً بالردّ المستمرّ على تصعيد الاحتلال تجاه المتظاهرين في مسيرات العودة». «صاروخ واحد يكفي»؛ يقول أبو مجاهد، وهو أحد رفاقه المقاومين، إنه كان يرى أن من شأن إطلاق صاروخ واحد في كلّ أسبوع أن يُبقي حالة النفير مستمرّة، وأن يُذكّر سكّان المغتصبات من الإسرائيليين على الدوام بأن العيش الهانئ في أرض مسروقة أمر محال.
رحَل صاحب الضربة الأولى في معركة «سيف القدس»، والتي استَهدف فيها بصاروخ «كورنيت» جيباً عسكرياً يتبع شعبة المخابرات في جيش الاحتلال، في 18 أيار، في عملية اغتيال طاولت المنزل الذي كان يوجد فيه في حيّ تل الزعتر شمال قطاع غزة.