بدا واضحاً، في خلال معركة «سيف القدس»، أن الأداء الذي أظهرته المقاومة، إنّما هو تتويج لخبرة تراكمت تباعاً، منذ فُرضت الحروب الموسمية كشكل للمواجهة المتجدّدة مع الاحتلال. أحد عشر يوماً شهدت ترجمة دقيقة لمراجعاتِ ثلاثِ حروب عاشتها غزة قبل المعركة الأخيرة. لم تأذن المقاومة بدخول «الكاميرا» إلى غرف عمليات التحكّم والسيطرة التابعة لها، والتي تمّت إدارة المعركة منها. كما تحفّظت على إفشاء المعايير التي اتُّخذت على أساسها القرارات. هي تمتلك مبرّرات تبدو منطقية لجهة تقطير المعلومات، إذ لا يحمل الواقع الميداني أيّ مؤشّرات إلى فترة هدوء مقبلة، فضلاً عن أن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية تعكف في هذه المرحلة على دراسة مجريات الجولة المنتهية حديثاً، وعليه «ليس من مصلحة أحد أن يقدّم معلومات مجّانية»، يقول ضابط التنسيق في «سرايا القدس» لـ»الأخبار». مع ذلك، فإن معايشة جنودِ عددٍ من التخصّصات القتالية في المقاومة وضبّاطها، خلال إعداد هذا الملفّ، كانت كفيلة بإخراج مجموعة من المشاهدات والملاحظات، التي يمكن البناء عليها في تكوين تصوّر حول طريقة إدارة المقاومة للمعركة. وعلى رغم أن الإمكانات المحدودة التي تمتلكها المقاومة، مقارنةً بالآلة العسكرية الفتّاكة والقدرة المخابراتية الهائلة لدى العدو، لا تسمح بالخروج بانتصار بائن بـ»الضربة القاضية»، إلّا أن المقاومة لم تستطع إفشال نظرية غادي أيزنكوت، الذي كان قد وضع بين عامَي 2017 و2018 أساس العقيدة القتالية الحالية التي سمّاها «خطة جدعون المحدثة»، فحسب، بل أفشلت أيضاً ما راكمه خَلَفه أفيف كوخافي من بنوك أهداف وخطط خداعية وكمائن ثمينة.بالنسبة إلى المقاومة، فإن أوّل مظاهر الإنجاز تَمثّل في القفز عن عنصر الضربة الاستباقية المباغتة، التي استخدمها جيش الاحتلال في حرب 2008، وأيضاً في حرب 2012، إذ تمّ تحديد ساعة الصفر سلفاً، عقب إنذارٍ لقائد أركان المقاومة الأوّل في فلسطين، محمد الضيف، هدّد فيه بالردّ عسكرياً إذا لم تتوقّف ممارسات التهجير ضدّ سكّان حيّ الشيخ جراح في مدينة القدس. هذه الخطوة أدخلت المقاومة على مدار أسبوعين سبقت «سادسة البداية»، في حالة من الطوارئ والنفير الكامل، انعكست لاحقاً في تخفيف زخم الأهداف المتاحة لطائرات العدو، ناهيك عن توفير تحديثات لحظية عن مقدار الحشود العسكرية على الحدود، تمّ توظيفها في فهم مسارات المعركة. في هذا الإطار، تقول مصادر في «سرايا القدس»، لـ»الأخبار»، أن إيقاعات المعركة وحدودها رُسمت من اللحظة الأولى، عندما أعطت القيادة الإذن بتنفيذ عملية ابتدائية، عبر ضرب جيب تابع لقيادة المخابرات الإسرائيلية مساء الـ10 من أيار، عقب ساعات من بدء المعركة. أريد من خلال تلك العملية، التي تمّت بواسطة ذراع المقاومة الطولى في الميدان البرّي «الكورنيت»، أن يُخرج الاحتلال من حساباته الإقدام على مواجهة برّية، وذلك لتعطيل مبدأ العمل العسكري المتوارث لدى قادة أركان الجيش الإسرائيلي، وهو «نقل القتال إلى أرض العدو». وبالفعل، أتاحت تحديثات الرصد والاستطلاع التي تبعت ضرب الجيب، الحصول على معلومات دقيقة عن تمركز وحدات الجيش في عمق تجاوز الـ7 كيلومترات عن الحدود البرّية لقطاع غزة. وهي معلومات جرى تحديثها على مدار الساعة، ليتمّ البناء عليها وتوظيفها لاحقاً في فهم الخطوة المقبلة للعدو. غير أن ما كان واضحاً في لحظتها، أن خيار الدخول البرّي أُجهض فعلاً.
ميدانياً، شكّل جيب وحدة المخابرات الإسرائيلية، الذي نشرت المقاومة مقطعاً مصوّراً لاستهدافه، واحداً من الأهداف «غير الثابتة» الدسمة التي ندَر تكرّرها خلال المعركة. غير أن ما كان متوفّراً باستمرار هو الأهداف الثابتة، إذ امتلكت المقاومة إحاطة معلوماتية دقيقة بجميع المواقع العسكرية المحيطة بالقطاع، والتي يستخدمها الاحتلال لأغراض الاتصالات وإدارة النار. ففي اليوم السادس من المعركة مثلاً، أعلنت المقاومة أنها قصفت قاعدة «إيمتاي» وسرية النخبة داخل موقع «كوسفيم» العسكري بعدد من قذائف «الهاون»، وهو ما علّقت عليه أوساط عبرية بالقول إن «ثُلُثي سكّان مستوطنات غلاف غزة لم يسمعوا يوماً بأسماء هذه المواقع، كيف يتمكّن الفلسطينيون من معرفتها؟». هذه الإحاطة المعلوماتية مكّنت المقاومة، وفق ضابط المدفعية في «السرايا»، من تعطيل عدد من القطاعات الحسّاسة والحيوية بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي مراراً، من مِثل رادارات «القبّة الحديدية» التي كان يجري إخراجها عن العمل قبل الرشقات الكبيرة، فضلاً عن استهداف «القبّة» ذاتها في أكثر من مرّة. لكن أكثر ما عكس مستوى الدقة في الوصول إلى الأهداف غير العسكرية، ذات الطابع الحساس، هو تمكّن المقاومة، في 12 أيار، من ضرب حقل «تمار» النفطي قرب سواحل عسقلان بطائرة مسيّرة من طراز «شهاب»، فضلاً عن إمطار تلك المنشآت بالمئات من الصواريخ.

صاروخ المقاومة يحمي أيضاً
بالنسبة إلى المقاومة، فإن أولى الوظائف التي كان يجب أن تُحقّقها الصواريخ، هي الحماية، وفرملة آلة الدمار الإسرائيلية التي بدأت حرب عام 2021، بما انتهت إليه في عام 2014. إذ سعت، من خلال مسلسل قصف الأبراج السكنية التي تؤوي الآلاف من العائلات والمصالح التجارية، إلى أن ترفع من تكلفة الخيار المؤيَّد شعبياً؛ فقصفت في 11 أيار، أي في اليوم الثاني من الحرب، «برج هنادي»، الذي أرادت أن يكون باكورة حملة تستهدف تسوية قلب مدينة غزة بالأرض. هنا، حسمت المقاومة خيارها بإفشال هذا المخطط، وهو ما دفعها إلى إطلاق 150 صاروخاً على مدينة تل أبيب دفعة واحدة، لا لحماية سبعين برجاً كانت تضعها إسرائيل في قائمة التدمير فقط، بل أيضاً لتعطيل الآثار النفسية المحتملة على جمهور المقاومة. لذا، والكلام لقائد في «السرايا»: «بدأنا بقصف تل أبيب برشقات غير مسبوقة، المئات من الصواريخ تمّ تفعيلها في لحظة واحدة». كان ذلك نموذجاً من سياسة الإغراق بالنار، التي اختصرتها القناة العبرية الـ12 بالقول إن مجموع ما قُصفت به تل أبيب خلال أيام الحرب الـ11، يفوق بثلاثة أضعاف ما تمّ إطلاقه خلال 51 يوماً من حرب عام 2014. استهداف تل أبيب تحديداً على هذا النحو، حصدت المقاومة نتائجه سريعاً، إذ بدا واضحاً أن ثمّة معادلة ضمنية، امتنعت إسرائيل بموجبها عن استهداف أيّ من الأبراج، مقابل استثناء تل أبيب من القصف. معادلةٌ يعلّق عليها أحد المطّلعين على مسار المعركة في قيادة المقاومة بالقول: «استنسخنا تجربة الردع اللبنانية التي عملت وفقها المقاومة اللبنانية: استهداف القرى مقابل الكاتيوشا؛ إذ إن العدو الذي انصاع في بداية التسعينيات أمام التوظيف الجيّد لصاروخ مثل الكاتيوشا، سينصاع اليوم أمام هذه الرشقات الكثيفة».
ظهر الصاروخ لأوّل مرّة في هيئة البطل الذي لا يحمي القدس فحسب إنما يحمي مقدّرات الناس وأرزاقهم


في أعقاب ذلك، لم تدمّر إسرائيل أيّاً من الأبراج على نحو كلّي، وكانت تكتفي بقصف شقة واحدة داخل الأبراج التي يجري تهديد سكّانها. هكذا، ظهر الصاروخ، لأوّل مرّة في الشارع، في هيئة البطل الذي لا يحمي القدس فحسب، إنما يحمي مقدّرات الناس وأرزاقهم، لتبدأ تساؤلات كثيرة عن المخزون الاستراتيجي من هذا السلاح الذي يُثبت فعّالية متصاعدة. هنا، تَصمت المقاومة، إذ يردّ علينا ضابط التنسيق الإعلامي في «السرايا» بأن ثمّة معلومات عددية لا نستطيع الإفصاح عنها. لكن قضاء خمس ساعات مع جنود وحدة المدفعية ولّد شيئاً من الودّ الذي جرى استثماره على نحو فضولي: كم قذيفة «هاون» تمتلكون يا أبا مصعب؟ نسأل، يجيب الضابط الشاب بنفس ما أجاب به ضابط التنسيق: «من غير المسموح الإفصاح عن معلومات عددية». تقول إسرائيل إن فصائل المقاومة تمتلك قرابة 30 ألف صاروخ، أقلّ من ذلك أو أكثر؟ نسأل، يضحك الضابط الشاب بهدوء ويجيب: «ما هو موجود مطَمْئن للصديق، ومزعج للعدو، ونحن نتحدّث الآن هناك مَن يصنع الكثير لتعويض المخزون الذي لم يتأثّر كثيراً».

لم تنطلِ الخدعة
عكست تقديرات المقاومة التي بنتها على معلومات ميدانية موثّقة، صوابيةً في اتخاذ القرار. إذ لم تنجرّ في ليلة 14 أيار، أمام كلّ المؤشّرات «المنطقية» التي وضعتها إسرائيل بين أيديها، إلى البدء بعملية برّية. في تلك الليلة، مهّدت المدفعية الثقيلة بالنار طوال ساعات، وسرّب الإعلام العبري المحلّي وعبر عدد من مراسلي الوكالات الدولية المرموقة، خبر بدء العملية البرّية. كان الهدف هو أن تشحن المقاومة أنفاقها القتالية بقرابة 800 مقاوم، تعتقد إسرائيل أنها تمتلك الإحداثيات النقطية لأنفاقهم، لتقوم لاحقاً بقصفهم في داخلها. لكن العملية التي سمّتها الأوساط الأمنية في جيش الاحتلال بـ»المترو»، والتي جرى التجهيز لها طوال سنوات مضت وشاركت في تنفيذها 160 طائرة مقاتلة، لم تكن على قدر مقنع من «الخداع»، يقول أبو بهاء، وهو قائد ميداني في «سرايا القدس»، مضيفاً أن «المقاومة بنت تقديرها على المعلومة الميدانية التي توفّرها وحدات الرصد، لذا لم تنطلِ الخدعة». صنعت الطائرات الإسرائيلية، آنذاك، وإلى جانبها وسائط المدفعية الثقيلة والبوارج الحربية في عرض البحر، حزاماً نارياً في منطقة شمال قطاع غزة، بأكثر من 200 غارة ارتجاجية وثقيلة نُفّذت في خلال 30 دقيقة فقط، فيما كانت المقاومة تشاهد الحدث وتنتظر انتهاءه، لتُعلِن أن العدو نفخ في قربة كانت قد ثقبتها المقاومة منذ اليوم الأول، إذ حيّدت فكرة الهجوم البرّي ليس في الميدان فحسب، بل حتى في عقول قادة الجيش الإسرائيلي الذين لا يريدون أن يقضوا على مستقبلهم العسكري، بأسر عدد من جنودهم في مغامرة كتلك.
في محصّلة الأمر، لم تشحن المقاومة أنفاقها بالمقاتلين. وأصلاً، لم تكن الغارات دقيقة كي تهدم الأنفاق كما كان يرجو الجيش. تقول مصادر في المقاومة إن «العدو أظهر، خلال هذه الجولة، أنه يمتلك معلومات هي حصيلة سنوات من العمل الاستخباري ورصد طائرات الاستطلاع والمناطيد العسكرية للقطاع، لكنّ تلك المعلومات لم تكن دقيقة»، مضيفة: «هو يمتلك معلومة أن ثمّة نفقاً للمقاومة جرى العمل على حفره في محيط جغرافي قدره 1000 متر مثلاً، لكنه لم يحدّد مساره بشكل دقيق، ولم يحدّد العمق الذي حُفر به، إذ إن أعماق الأنفاق متفاوتة»، وهو ما يفسّر لجوء الاحتلال إلى سياسة تغطية مساحات محدّدة من الأراضي بالعشرات من الغارات، وذلك للاشتباه في وجود نفق أو نشاط للمقاومة فيها.
هنا، يرجع الفضل إلى المعلومة الدقيقة والمُحدَّثة على نحو آنيّ، إذ إن التكامل في عمل الوحدات المختلفة التخصّصات في الميدان، صَنع هذه النتيجة. يوضح مصدر مطّلع على سير المعركة الأمر بالقول: «كانت المعلومات والصور المباشرة تصل إلى الحشود على الحدود، وكانت غرف عمليات المقاومة تحلّل المعلومات، وتتّخذ القرار المناسب. في تلك الليلة، لم تكن الحشود كافية لشنّ عملية برية، ولم تكن الفترة التي استغرقها القصف الجوّي كافية أيضاً، وقد وجدنا يومها أن الجيش الإسرائيلي يستخدم الإعلام العربي والدولي لصناعة الخديعة، وآثرنا التمهل».

الكلمة الأخيرة
ليست الإحاطة التي تمتلكها المقاومة ميدانية فحسب؛ إذ أظهرت تصاعديةُ استخدام النار فهماً للأبعاد النفسية التي ينطلق قادة الاحتلال منها في إدارة المعركة. فبنيامين نتنياهو، مثلاً، ظلّ طوال الحرب يبحث عن صورة انتصار، أرادها تارةً باغتيال قادة كبار بحجم محمد الضيف ويحيى السنوار، وتارة أخرى، بعد اليأس ممّا سبق، بالاستثمار في آخر الساعات التي سبقت وقف إطلاق النار، عبر تدمير عدد كبير من المنازل والمنشآت ذات البعد الحيوي. كان من شأن ذلك أن يعكّر الأجواء الاحتفالية التي أرادتها المقاومة، وهو ما دفعها إلى تحضير ما سمّته «الكلمة الأخيرة»، التي كان يريدها نتنياهو لجيشه فقط. هكذا، أعدّت المقاومة رشقة صاروخية كبيرة مكوّنة من مئات الصواريخ، كان من المفترض أن تقصف بها المدن المحتلة في آخر دقائق المعركة التي تسبق تمام الساعة 2:00 صباحاً من يوم 21 أيار، لكنها وجدت أن استثمار هذه الضربة في ردع الطائرات الإسرائيلية عن القصف أفضل من تنفيذها. وهو ما تمّ بالفعل، إذ سرعان ما هدّد المتحدّث باسم «كتائب القسام» بتفعيل الرشقة في حال أقدم الاحتلال على قصف أيّ من الأهداف المدنية في الساعات التي تسبق وقف إطلاق النار، لتنتهي الحرب من دون حصول الاحتلال على صورة انتصار، حتى إن هيئة البثّ التلفزيوني والإذاعي الإسرائيلية، «كان»، علّقت على عملية «حارس الأسوار» بالقول: «هكذا، انتهت الحرب حتى قبل أن نفهم أهدافها».