تغيب الحماسة لدى غالبية القوى السياسية في العراق للدخول في تحالفات انتخابية. مردّ ذلك إلى القانون الجديد للانتخابات القائم على الصوت الواحد والدوائر الصغرى (329 مقعداً موزّعة على 83 دائرة)، والذي يسمح للقوى السياسية بإظهار قوتها الخاصة من دون تحالفات، ويعطي الولاء الديني والعشائري والقومي والمناطقي أسبقية في التحشيد. وإذا كان للانتماءات العشائرية والمناطقية والقومية دورها في إنجاح قوى تستجيب لهواجس تتعلّق بها، فإن الولاء الديني يبدو كفيلاً برفع قوى أخرى تتوافر فيها شروطه على المستوى الوطني الأوسع. وهو ما ينطبق بوضوح على "التيار الصدري" وبعض القوى الأصغر مثل تيار "الحكمة" بزعامة عمار الحكيم، من جهة، وأيضاً على القوى التي تؤلّف "الحشد الشعبي" وتدعمه، من جهة أخرى. وبالنظر إلى الخريطة المتشكّلة حتى الآن، يبدو أن ثمّة مظلّتَين سياسيتَين كبيرتَين ستندرج تحتهما معظم القوى العراقية، الأولى يتصدّرها تكتل "سائرون" التابع لمقتدى الصدر، والثانية يتقدّمها "الحشد الشعبي".من بين أبرز القوى المرشّحة للانضواء إلى مظلّة التحالف الأول، والتي يسعى الصدر إلى الاتفاق معها على شروط الائتلاف منذ الآن: تيار "الحكمة"، وتيار "النصر" بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي والنائب عدنان الزرفي، إلى جانب حزب "تقدّم" بقيادة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي من القوى "السنّية"، و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود بارزاني عن "الأكراد". في ما يتعلّق بالأخير، والذي سيشكّل التحالف معه - إذا ما تَحقّق - تحوّلاً رئيساً في العلاقات بين القوى العراقية، جرى عقد اجتماعات بين الجانبين في أربيل، وسط تقارير عن تفاهمات تتعلّق بأن يكون الصدر صاحب الكلمة الأولى في تسمية رئيس الوزراء، مقابل تمكين بارزاني من "خطف" رئاسة الجمهورية من "الاتحاد الوطني الكردستاني". حول ذلك، يوضح النائب عن تكتل "سائرون"، رياض المسعودي، في تصريح إلى "الأخبار"، أن "الحراك السياسي يعيش أربع مراحل، هي التفاهمات والاستقطابات والتحالفات والشراكات. نحن الآن في مرحلة الاستقطاب لبعض القوى السياسية التي تقترب من رؤيتنا في إدارة البلاد في المرحلة المقبلة"، معتبراً أن "التجارب السابقة أثبتت فشلها في كثير من الملفّات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وهذه التراجعات الخطيرة ألقت بظلالها على العملية السياسية برمّتها. لذلك نعمل جاهدين ونتواصل مع القوى السياسية، لاستطلاع مَن هي القوى التي نستطيع أن نعمل معها في المرحلة المقبلة لصياغة مشروع سياسي وطني واضح، يكون بعيداً عن التحالفات والرؤى السابقة، التي لم يكن لها وقع في تصحيح مسارات العملية السياسية". وفي الاتجاه نفسه، يرفض "تيار الحكمة"، هو الآخر، العودة إلى صيغ التفاهمات السابقة، مُعلِناً أن "مَن سيكون قريباً من رؤيتنا بأن يكون تحت غطاء مشروع بناء الدولة ومؤسسات الدولة، سنتحالف معه من دون التفكير في مسمّيات أو أحجام الكتل السياسية، سواء كانوا الإخوة في البيت الشيعي أو على مستوى السنّة أو الكرد"، بحسب ما يقول عضو كتلة تيار "الحكمة"، أيسر الجادري، مضيفاً في حديث إلى "الأخبار" أنه "إذا استطعنا أن نحصل على غالبية من خلال هذا المشروع، وأن نذهب باتجاه تشكيل حكومة، فبالتأكيد سوف يبقى الذين لا يؤمنون بهذا المشروع خارج الحكومة، وإذا ما كان العكس فبالتأكيد سوف نختار أن نكون خارج تشكيل الحكومة بالآليات نفسها التي تشكّلت بها الحكومة السابقة في 2018".
سيُحدث التحالف بين الصدر و«الديموقراطي الكردستاني» تحوّلاً رئيساً في علاقات القوى العراقية


وفي هذا الإطار، يلفت المسعودي إلى أن "تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء يرتبطان بعائد الأصوات التي سيحصل عليها التيار الصدري، فضلاً عن التحالفات السياسية المرتبطة بتفاهمات مع بقية الشركاء"، مؤكداً أن "التيار سيكون له دور مهمّ وحاسم كما في الدورات السابقة في اختيار رئيس الوزراء". وعمّا إذا كان تياره يدعم تولّي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة بعد الانتخابات، يقول المسعودي "لا نعتمد على اسم بعينه، وإنما نعتمد على طبيعة التحالفات المستقبلية وطبيعة المشروع المستقبلي في إدارة البلاد، ومن سيستطيع أن يتعهّد بتنفيذ هذا المشروع الكبير. فهذه ليست انتخابات دورية، بل انتخابات مبكرة هدفها الاستجابة لما جرى في الشارع ودعوات المرجعية ومتطلّبات المرحلة بعد وصول العملية السياسية إلى نفق مظلم، مع بيان أننا لا نضع خطوطاً حمراً على أحد، إلا الذين لا يستطيعون إدارة البلاد في المرحلة المقبلة". وكانت تقارير تحدّثت عن أن حظوظ الكاظمي ستكون مرتفعة في حال فازت القوى التي ستنضمّ بعد الانتخابات إلى التحالف مع الصدر، وأن هذا التحالف العتيد آثر السير برئيس الحكومة الحالي في ولاية ثانية، بعد أن مهّد الكاظمي لذلك بالامتناع عن الترشّح للانتخابات، وسحْب مشاركة تيار "المرحلة" القريب منه فيها. ولا ينفي الجادري أن يكون طرح الكاظمي لرئاسة الوزراء بعد الانتخابات وارداً، "لكننا نعتقد أن الحديث عن هذا الموضوع لا يزال مبكراً، ذلك أن حجم القوى والمقاعد التي ستحصل عليها القوى السياسية والتحالفات، هي التي سوف تحكم". المفارقة أن التحالف الأول العتيد لا يكترث لمسألة ضمّ ممثّلين عن التظاهرات التي شهدها العراق اعتباراً من أواخر 2019، إليه، وذلك لأنه يعتبر أنها لم تستطع إنتاج قوى متماسكة تملك إمكانيات خوض الانتخابات، على رغم أن هذه التظاهرات هي التي فرضت إقالة عبد المهدي واستبدال الكاظمي به. والجدير ذكره، هنا، أنه على رغم أن المتظاهرين حمّلوا الفريق الحاكم مسؤولية قمع التظاهرات لكونه يمتلك السلطة، ويأمر مختلف القوى الأمنية التي يترأسها الكاظمي بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإن أطرافاً وازنين، في مقدّمتهم "التيار الصدري"، استطاعوا أخذ مسافة من السلطة، وجنَوا مكاسب سياسية من وراء ذلك، يأملون ترجمتها انتخابياً.
المظلّة الثانية في المشهد الانتخابي ينضوي إليها "تحالف الفتح" بقيادة هادي العامري، وهو الجناح السياسي لـ"الحشد الشعبي"، ويضمّ "عصائب أهل الحق" و"منظّمة بدر" وكتلة "نصحّح"، إضافة إلى تحالف "العقد الوطني" برئاسة فالح الفياض، و"ائتلاف دولة القانون" برئاسة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يمثّل "حزب الدعوة". كما انضمّ إلى هذا التحالف "الاتحاد الوطني الكردستاني" الساعي للحفاظ على إمساكه بمنصب رئيس الجمهورية. ويُعتبر دور "الحشد" العنوان الأبرز للانتخابات المقبلة، على رغم أن أيّاً من القوى الكبرى لا يجرؤ على التنكّر علناً لهذه المؤسسة التي لعبت الدور الأساسي في هزيمة "داعش"، إلا أن الحديث عن "مشروع بناء الدولة" وعن "تفلّت السلاح" من قِبَل معارضي "الحشد"، يستبطن رغبة لدى هؤلاء في تغيير دوره من خلال المؤسّسات الدستورية، أي من خلال الحصول على غالبية في مجلس النواب، تماماً كما كان تشكيل "الحشد" بفتوى الجهاد الكفائي ومن ثمّ مرّت مأسسته عبر تصويت برلماني. وحول هذه النقطة، يشير المسعودي إلى أن "الحشد الشعبي يمتلك مؤسسة كبيرة، فضلاً عن موازنة متكاملة له. نحن أيضاً جزء من هيئة الحشد، ولدينا اللواء 313 و314 و315، الذي يمثّل الدعامة الأمنية الأساسية في قاطع سامراء وصلاح الدين". لكنه يعتبر أنه "لا ينبغي أن يُستثمر ملفّ الحشد الشعبي من قِبَل أطراف سياسيين. فهو حشد عراقي وليس حشداً حزبياً أو مكوّناتياً. لذلك، نحن نقول إن هناك بعض الأطراف الذين يحاولون عبثاً أن يجيِّروا هذا الملفّ لمصلحتهم، وهذا مرفوض لأنه يُستثمر بكلّ تأكيد انتخابياً وسياسياً وأمنياً وإعلامياً. ينبغي أن يكون الحشد بعيداً عن استثمار السياسيين له، فهو مؤسّسة أمنية قدّمت تضحيات، وينبغي أن يكون مستقلّاً وتحت إدارة القائد العام للقوات المسلحة".