يتّجه بنيامين نتنياهو نحو تكبّد الخسارة الأكبر في تاريخه السياسي، والتي ستكون كفيلة بإنهاء اثني عشر عاماً متواصلة قضاها الرجل في رئاسة الوزراء. خسارة لن تقتصر على ما سيواجهه في المسار القضائي بفعل افتقاده أدوات النفوذ التي كانت ستُوفّر درع حصانة له، بل قد تمتدّ أيضاً إلى تزعّمه حزب "الليكود"، وربّما إلى مستقبله على الساحة الإسرائيلية برمّته. هكذا، تنفتح أبواب "التغيير" في الكيان العبري بعد دوّامة انتخابات مبكرة أدامت الأزمة الداخلية قرابة عامين ونصف عام، من دون أن ينسحب ذلك على السياسات التي ستظلّ إحلالية استيطانية عنصرية، لا لكون رئيس الحكومة العتيدة أحد أبرز وجوه اليمينية المتطرّفة فقط، إنما أيضاً لأن الائتلاف الوليد سيكون مضطراً لمجاراة الرأي العام الذي أضحت اليمينية جزءاً من هويّته
سقطت عراقيل تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، واحدة بعد أخرى، وتقرّرت جلسة منح الثقة يوم الأحد المقبل. وإن لم تطرأ عراقيل غير منظورة الآن، فإن حكومة رئيس حزب «يمينا»، نفتالي بينت، ستبصر النور قريباً، فيما يتوجّه رئيس الحكومة الحالي، بنيامين نتنياهو، إلى مقاعد المعارضة في «الكنيست»، ليحارب من هناك على مصيره السياسي والشخصي داخل حزبه وأمام المحاكم، التي عمل جاهداً على تجاوزها. وفي تطوّر عُدّ مفصلياً، أعلن عضو «الكنيست» من حزب «يمينا»، نير أورباخ، أنه قرّر التصويت لمصلحة الائتلاف الجديد بقيادة بينت، على خلفية خشيته من التسبّب بانتخابات مبكرة جديدة وفوضى سياسية، وربّما أيضاً كما قال «حرباً أهلية». وهو، بخطوته هذه، بدّد رهاناً لدى نتنياهو على أن يُفقد الحكومة الجديدة الثقة. ويضمن قرار أورباخ لرئيس حزبه، بينت، أن يحوز تأييد أغلبية ضئيلة في «الكنيست» (61 عضواً من أصل 120)، بعدما ساد الائتلافَ الجديد قلقٌ من أن ينسحب أورباخ من جلسة الثقة أو يصوّت بـ»لا» خلالها، ويتسبّب بالتالي بانتخابات مبكرة خامسة، كانت لتصبّ في مصلحة نتنياهو، وهو ما راهن الأخير عليه بشدّة.
تبدُّد رهانات نتنياهو يُعبّد الطريق أمام سيناريوات كان يخشاها، ليس في ما يتّصل بإمكانية إسقاطه عن كرسيّ رئاسة الحكومة التي تمسّك بها طويلاً فقط، بل أيضاً، وهو الأساس في هذه المرحلة بالنسبة إليه، على مستوى المسار القضائي؛ إذ إن محاكمته ستكون بلا غطاء سياسي، وبلا قدرة تأثير وازنة، إن تَقرّر بالفعل السير بها قُدُماً. كانت لدى نتنياهو، بوصفه رئيساً للحكومة، خيارات متعدّدة ومختلفة للالتفاف على محاكمته والعمل عبر نفوذه على احتواء تداعياتها وتأخيرها، وربّما أيضاً إسقاطها، لكنّ هذا الأمر بات بعيداً عن متناول يده، وفي حدّ أدنى صعباً للغاية. على أن «مصائب» نتنياهو لن تقتصر على وضعه القضائي عبر التسريع في محاكمته بقضايا فساد ورشى، بل سينسحب ذلك على موقعه في رئاسة حزب «الليكود»، حيث يُتوقّع أن تتعالى الأصوات المطالِبة بالتغيير، وإن كانت لا تزال خجولة حالياً. ففي أحاديث مغلقة تسرّبت لاحقاً إلى الإعلام (قناة كان)، ورد أن وزير الصحة، يولي أدلشتاين، أبلغ كبار الشخصيات في «الليكود» بأنه ينوي الترشّح لزعامة الحزب ضدّ نتنياهو، معتبراً أن «الوقت حان لاستبداله». ووفقاً لمعلومات القناة، لم يكتفِ أدلشتاين بالتصريح بتوجّهه فحسب، بل التقى نشطاء بارزين في الحزب في الأيام الأخيرة، وطلب دعمهم. إلا أنه في المقابل، يبدو أن المعركة على رئاسة «الليكود» لن تكون سهلة، سواءً بالنسبة إلى أدلشتاين أو غيره من كبار المسؤولين في الحزب. إذ أعلن رئيس كتلة «الليكود» في «الكنيست»، ميكي زوهر، أن «استبدال نتنياهو ليس على جدول الأعمال»، مضيفاً أنه «لا توجد انتخابات تمهيدية مقرَّرة، ونتنياهو سيكون رئيساً لليكود حتى موعد الانتخابات المقبلة».
يواجه نتنياهو، في حال نيل الحكومة الجديدة الثقة، واقعاً مغايراً قد يطيح بآماله على المدى الطويل


مع ذلك، يواجه نتنياهو، في حال نيل الحكومة الجديدة الثقة، واقعاً مغايراً قد يطيح بآماله على المدى الطويل، حتى لو نجح في صدّ «التمرّد» ضدّه داخل حزبه، أو في تجاوز محاكمته. إذ اتُّفق، كجزء من تفاهمات الائتلاف الوليد، على السير قُدُماً بتعديل القانون الأساسي لـ»الكنيست»، بهدف منع نتنياهو من الترشّح في الانتخابات المقبلة. ووفقاً لمشروع القانون المتّفق عليه، يُمنع على أيّ رئيس وزراء أو رئيس وزراء بديل تولّي المنصبين لأكثر من ثماني سنوات متتالية، وسيتعيّن على مَن توّلوا واحداً من المنصبَين الانتظار أربع سنوات كي يتمكّنوا من إعادة الترشّح، الأمر الذي يحرم نتنياهو من فرصة، نظرية في حدّ أدنى، للعودة إلى رئاسة الحكومة. ولن تقتصر خسارة نتنياهو عليه وحده، بل ستطاول شخصيات وجهات حزبية وائتلافات قرّرت السير إلى جانبه حتى اللحظة الأخيرة، وفي المقدّمة الأحزاب «الحريدية» التي بدأت فور صدور قرار التصويت على الثقة، مهاجمة نفتالي بينت ووصفه بـ»الخائن والشرّير واليهودي الإصلاحي»، مشيرة في بيان مشترك إلى «وجود خطر حقيقي يحيط بالدولة اليهودية»، جرّاء تولّي بينت رئاسة حكومة مستندة إلى أحزاب اليسار. وعقدت كتلتا «شاس» و»يهودت هاتوراه» (الحريديّتان) «اجتماعاً طارئاً» أمس، تحدّث فيه وزير الداخلية، رئيس حزب «شاس»، أرييه درعي، معتبراً أن «الدولة اليهودية» في خطر، فيما رأى رئيس حزب «يهودت هاتوراه»، موشيه جافني، أنه «تمّ صنع حثالة في إسرائيل. أناشد الناخبين اليمينيين وغيرهم من الناخبين في الصهيونية الدينية، أن أَخرجوا هؤلاء الناس منكم، أَخرجوهم من إسرائيل فليس لدينا أيّ شراكة معهم في أيّ شيء». أمّا الوزير يعقوف ليتسمان فوصف «حكومة التغيير» بأنها «حكومة يسارية متطرّفة ضلّت طريقها وعصت ضميرها»، مضيفاً: «لقد تمّ محو الطابع اليهودي بأكمله في هذه اللحظة. أنا لا أفهم لماذا تحتاج إلى جناح إصلاحي (نسبة الى طائفة اليهود الإصلاحيين المنبوذين من الحريديم)، بات لدينا رئيس وزراء إصلاحي. أدعوه إلى عدم وضع القلنسوة على رأسه، لأنه يعيبها. وعندها سيفهم الجميع أنه إصلاحي». غضب «الحريديم» انعكاس طبيعي لتقديرات سائدة لديهم بأن خسارتهم ستكون كبيرة جدّاً، وأن كلّ ما استحصلوا عليه خلال مشاركتهم في حكومات نتنياهو، سواءً في ما يتعلّق بطابع الدولة اليهودي المتوافق مع تطرّفهم الديني، أو العطاءات الاقتصادية التي كانوا يستحصلون عليها، وكذلك اتفاقات الوضع القائم في عدّة ملفّات في الدولة نفسها، ستكون كلّها عرضة للخطر.
في الجانب الآخر من المشهد، تفاؤل حذر لدى أقطاب الائتلاف الجديد؛ إذ إن الجميع يدرك أن نيل «حكومة التغيير» الثقة يعني أن أهمّ أهدافها، وربّما الهدف الرئيس الذي أوجدها ومكّنها من تجاوز تناقضاتها، قد تَحقّق بالفعل، وهو إسقاط نتنياهو، فيما بقاء الحكومة نفسها محلّ شكّ في أقلّ تقدير. وفيما طالب بينت، نتنياهو، بتقبّل الواقع والكفّ عن التحريض، قال رئيس حزب «يش عتيد»، شريك بينت في الائتلاف وعرّابه، في تغريدة أخيرة له «إن الأمر يحصل بالفعل». وهو ما أشار إليه أيضاً وزير الأمن السابق، أفيغدور ليبرمان، بقوله إن «خطوة بسيطة ما زالت تفصل الواقع عن حكومة التغيير، حكومة العمل والاقتصاد والنظام العام». إذاً، موعد إسرائيل مع التغيير، في رأس الهرم السياسي، هو الأحد المقبل، من دون أن يتغيّر شيء، بطبيعة الحال، في سياساتها وأطماعها وتطرّفها وقضمها الحق الفلسطيني والعربي، وتوثّبها الدائم للعدوان، بل إن حكومة بديلة من نتنياهو، صاحب التاريخ الطويل في العدوان، معنيّة بأن تُثبت للجمهور الإسرائيلي، الذي باتت اليمينية جزءاً لا يتجزّأ من هويّته وكينونته، أنها أكثر تطرّفاً من نتنياهو وشركائه، خاصة أن رئيس الحكومة المقبل هو واحد من رموز اليمينية المتطرّفة، التي ترفض أيّ تسوية، وإن كانت شكلية، مع الفلسطينيين.