غزة، القاهرة | بعد سنوات من تضرّر المكانة المركزية للدولة المصرية في المنطقة من جرّاء حركة التطبيع التي قادها دونالد ترامب، ومحاولة الإمارات والسعودية لعب أدوار إقليمية على حساب مصر في عدد من الدول، وجدت الأخيرة الفرصة سانحة لاستعادة مكانتها وتقوية موقفها مع الإدارة الأميركية من بوّابة غزة، عسى أن تغيّر واشنطن موقفها من قضايا، من مثل «سدّ النهضة»، وتدعمها. لذلك، بدت واضحة رغبة المصريين في تحقيق إنجاز سريع في الوساطة لوقف القتال بين المقاومة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، لينطلق بعدها قطار المفاوضات، أولاً لتثبيت تفاهمات شاملة تمنع التدهور مجدّداً، وثانياً لإنجاح تبادل للأسرى، وهو ما دفع القاهرة إلى إرسال وزيرَي الخارجية والمخابرات بتكليف رئاسي للتوسّط بين الأطراف جميعاً.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
من بداية المواجهة، تبنّى الرئيس عبد الفتاح السيسي تدويل الأزمة في قمّة في باريس جمعته بنظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والملك الأردني عبد الله الثاني، ليطلق من هناك مبادرة لتخصيص نصف مليار دولار لإعمار غزة، ثمّ يوجّه بفتح المستشفيات المصرية ومعبر رفح لنقل المصابين الفلسطينيين للعلاج، كما أرسل وزير المخابرات عباس كامل ممثّلاً شخصياً عنه، وأمر بسرعة بإدخال المعدّات الثقيلة إلى القطاع. يطرح هذا النشاط كثيراً من التساؤلات، على رغم أنه يأتي بعد سنوات من تحسّن العلاقة مع «حماس»، خاصة بعد انتخاب يحيى السنوار قائداً للحركة في غزة عام 2017، وهو الرجل الذي كسب ثقة المصريين عبر «ضبط» الحدود بين القطاع وسيناء، إضافة إلى أنه حارب الفكر «الداعشي»، وقد توازى ذلك مع فتح علاقات تجارية مع غزة عبر «بوابة صلاح الدين»، وإدخال الكثير من المواد التجارية ومواد الإعمار، ما قلّص فرص الانفجار أكثر من مرّة ومنَع انهيار الأوضاع الاقتصادية.
في الوقت نفسه، باتت مصر تدرك، بعد 17 جولة قتالية آخرها حرب استمرّت 11 يوماً، أن «حماس» تمتلك قدرات عسكرية ليست هيّنة، وأن فكرة القضاء عليها صارت من الماضي، بل الأفضل هو الانفتاح عليها سياسياً واقتصادياً وأمنياً لتحقيق أكبر مكاسب من اللاعبين الدوليين، إضافة إلى أخرى اقتصادية. وبالفعل، استطاع النظام المصري بعد هذه السنوات إيصال رسالة واضحة إلى الإدارة الأميركية مفادها أنه «حارس البوابة» الذي يجب أن تمرّ عبره المصالح الغربية، ولا سيما بعد ما أثير من تخوّفات مصرية على دور «المحروسة» في ملفّ الوساطة، وتداعيات موجة التطبيع الأخيرة على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. وحتى قبل أسابيع قليلة، لم يكن متصوراً رفع القاهرة مستوى التمثيل في العلاقة مع «حماس»، لكن العدوان الأخير والقدرات العسكرية الفلسطينية والرغبة الأميركية في التهدئة من جرّاء المعطيات التي لا تصبّ في مصلحة إسرائيل، إلى جانب تغيّر المزاج الدولي ضدها، كلّها عوامل حثّت السيسي على جعل غزة ملفّه الرئيس الآن.
تنظر القاهرة إلى غزة من زاوية استثمار سياسي وأيضاً اقتصادي


وعلى غير المتوقّع، اتّخذت القاهرة موقفها مبكراً، وقرّرت مساندة «حماس» علناً على قاعدة أن ما يجري ردّ فعل على الاعتداءات الإسرائيلية في القدس، وأن الحركة تُدافع عن مدنيين يتعرّضون للاستهداف العشوائي على أيدي قوات الاحتلال التي سعت إلى تدمير البنية التحتية، وهو ما «حرصت القاهرة على إبرازه في المحافل الدولية بصورة عرّضت تل أبيب لانتقاد حادّ دولياً... لكن مع تأكيد وجود تجاوزات من الطرفين، وتوضيح عدم جواز تساوي تجاوزات حماس مع ما تقوم به إسرائيل على المستويات كافة»، تقول أوساط مسؤولة في القاهرة. وتوضح هذه الأوساط أن زيارة اللواء كامل التي جرى الاحتفاء بها «لم تكن سوى جزء من مشهد تسعى القاهرة إلى استكماله ضمن تغيير استراتيجيتها في التعامل مع حماس»، التي لطالما وُجّهت ضدّها اتهامات بالإرهاب ومساندة المتطرفين الذين يستهدفون الجيش المصري، إلى درجة أن الأخير أباد مدينة رفح الحدودية وأزال المنازل من الشريط الحدودي جرّاء هذه الاتهامات.
هذا التغيّر بعد العدوان الأخير جاء على نحو لم يكن حتى أكبر مؤيّدي النظام يتوقّعه، ليس بسبب سياسة حُسن النية التي اتّبعتها «حماس» طوال السنوات السابقة، بل لرغبة النظام المصري في تحقيق منافع سياسية واقتصادية من احتواء الحركة. وتدرك القاهرة أن السيطرة «الحمساوية» على غزة ليست مؤقتة، وأن نفوذها في السلطة يتزايد، ولذا ترى أن من المهمّ فتح قنوات اتصال معها لأسباب أهمّها مواجهة الدور الإماراتي الساعي إلى انتزاع المكانة المصرية في الملفّ الفلسطيني، مع البحث عن ضخّ المنتجات المصرية إلى القطاع. في الوقت نفسه، يغلق نظام السيسي الباب كاملاً أمام أيّ حديث عن توطين لأهالي غزة في سيناء، وهذا ليس مرتبطاً بقرار رئاسي منفرد، بل بتصرّفات واقعية تسمح بتحسين ظروف الحياة في القطاع وتهيئة المباني والطرق لتتحمّل الكثافة السكانية المرتفعة، مع تسهيل حركة الدخول والخروج من «رفح»، وعمل المعبر بانتظام، بل تسهيل تنقّلات الغزّيين دخولاً وخروجاً، الأمر الذي شهد تحسّناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة، في ظلّ تخفيف إجراءات التفتيش وتقليص ساعات الانتظار.
أيضاً، يرغب النظام المصري في اقتناص فرصة الاحتياجات الكبيرة لتنفيذ عملية إعادة الإعمار خلال العامين المقبلين، إذ يمكن توفيرها من مصانع الجيش في سيناء التي تعمل بالفعل، ما يقلّل من تكلفة النقل ويتيح سرعة الوصول، إلى جانب توفير الاحتياجات الغذائية التي ستصل إلى غزة، سواء من مصانع الجيش أم عبر اتفاقات تبرمها الشركات التابعة له. ووفق الأوساط نفسها، الرؤية المصرية مرتبطة بتحويل غزة لتكون سوقاً استهلاكية للبضائع المصرية عبر رفع ميزان التجارة مع القطاع مباشرة، شريطة أن يتمّ تحقيق التبادل التجاري على قاعدة ما يرغب فيه الجيش، لكن مع إدراك طبيعة الأرض في غزة، والعمل على فهم الواقع الجغرافي بدقة، ولا سيما في ما يتعلّق بالأمور العسكرية التي سبق أن تسبّب غياب المعلومات عنها في قلق بالغ لمصر، خاصة خلال التوتر الأخير. ومن هنا، ترى المخابرات في الدور الجديد في غزة فرصة لا تتاح كثيراً، ويجب استغلالها لتأمين الحدود كلياً.