غزة | فجأة، توقّف الطفل عن اللعب. كَبُر الصغير ذو الاثني عشر عاماً في لحظة واحدة، ولم يَعُد لديه ما يصنعه سوى تقليب صور أبيه الذي ارتقى شهيداً في العدوان الأخير على غزة. استشهد السند والصديق، وبقي المُدلَّل الصغير. هذه المرّة، لم تكن الحرب كسابقاتها. صحيح أنها لم تستطل كغيرها، لكن كثافة النيران تجاوزت الحدّ الذي يمكن أن يحتمله الكبار قبل الصغار. استراتيجية المحتلّ في العدوان الأخير تركّزت على استهداف وسط غزة المدينة، حيث الكثافة السكانية الأعلى عالمياً، بغارات متواصلة بلا انقطاع. دفعة واحدة، سقطت خمسة أبراج سكنية، وهو ما جعل ساكني الشقق والمنازل هناك يشعرون بأنهم مهدّدون في كلّ لحظة، بعدما كان القصف في الحروب السابقة يتركّز على البيوت المجاورة للمناطق الحدودية.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
صابر سليمان، والد براء، كان يروي شتلات الفلفل والباذنجان في أرضه الزراعية في عزبة عبد ربه شرقيّ جباليا شمالي القطاع، لحظة سقوط الصاروخ فيها. «يابا... يابا... الله يسهّل عليك يابا»، صرخ ابنه بعدما ركض بضعة أمتار ليتقدّم جنازة والده ويشارك البقية في حمل جثمانه. يقول خال الطفل إن براء لا يتمكّن في الوقت الراهن من دخول دورة المياه وحده حتى خلال ساعات النهار.
في حرب عام 2014، تعرّض 370 ألف طفل لاضطرابات نفسية، 250 ألفاً منهم لا يزالون بحاجة إلى دعم نفسي وتدخّل اجتماعي، وفق ما يقول المدير العام لبرنامج غزة للصحة النفسية، ياسر أبو جامع. إلى هؤلاء، يعاني نحو 51% من اضطراب كرب ما بعد الصدمة والتبول اللاإرادي، في حين تتفاوت النسب لدى البالغين ما بين اكتئاب واضطرابات جسدية وهلع وشعور مستمرّ بالخوف، كحال تلك المرأة التي مكثت يومين تحت زخات القذائف، وهي تنظر إلى جثتَي زوجها وابنها، فأصيبت بأعراض نفسية عدّة، في حين يعاني الأطفال البالغون من آلام المفاصل، عدا عن مشاكل التركيز واستثارة الجهاز العصبي، يضيف أبو جامع. أما أولئك الذين تعرّضوا لحادث صادم، كحالة ابن الشهيد صابر، فهم أكثر عرضة للأمراض العصبية، كالهستيريا والأمراض الانشقاقية. وهناك قصص مشابهة لقصة نجل سليمان، أبرزها قصص «الناجي الوحيد» التي تكرَّرت مع أكثر من عائلة، عدا عن بعض العائلات التي قضى جميع أفرادها تحت الأنقاض. في حقيقة الأمر، شعر كلّ سكان القطاع بالتهديد، والأرقام، في هذه الحالة، لا تعكس حقيقة الوضع. فكل شخص سيعاني من ألم نفسي فيما لو استشهد أو أُصيب أحد أفراد عائلته.
هناك مشكلات لا تزال عالقة من دون حلول منذ عدوان عام 2008 وما قبله. فـ 1800 وحدة سكنية يقطنها حوالى عشرة آلاف شخص، لم يعد إعمارها لغاية الآن، فيما يتذكّر هؤلاء معاناتهم لدى مرورهم بجانب المباني التي دُمِّرت في الحرب الأخيرة. حتى إن سكان القطاع لا ينامون ليلاً هادئاً، فطائرات الاستطلاع لا تغادر هي الأخرى سماء المنطقة المحاصَرة، وهو ما يسهم في تأخُّر شفاء المرضى من الاضطرابات، ولا سيما سكان المناطق المتاخمة للحدود.