لم يكن ما تحدّث عنه رئيس حركة «حماس» في غزة، يحيى السنوار، في المؤتمر الصحافي الأخير، سوى جزء يسير مما يمكن التصريح به: الجهد الاستخباري للمقاومة لإحباط خطة إسرائيلية معدّة سلفاً للهجوم على غزة، والتعاون الكثيف مع المقاومة الإسلامية في لبنان استخبارياً (وجوياً للاستطلاع)، ونسبة الضرر «الطفيفة» التي أصابت إمكانات المقاومة في قطاع غزة بشرياً ومادياً، ومدى الأنفاق والقدرة الصاروخية وحالة التصنيع... كلها كانت إشارات بسيطة إلى ما هو أعظم. في هذا الملف، تكشف «الأخبار» معلومات أوسع حول هذه المحاور التي حصلت على جزء منها من مصادر في المقاومة قبل بدء المعركة لكن جرى التحفظ عليها بطلب منها، ومعلومات أخرى نُقلت إليها بعد الإنجاز الذي تحقق
عمل الإسرائيلي منذ ثلاث سنوات ــ على الأقل ــ على محاولة صنع «إنجاز» يستعيد به مفاهيم «الردع» و«الجيش الذي لا يقهر» و«النصر السريع»، مع كل من لبنان وغزة. فكلمة مثل «الردع» أو حتى «تضرر الردع» تكاد تغيب عن السجالات الإسرائيلية منذ خمس سنوات، وما هذا إلا دليل على فقدانها من الخلفية التي تحرك العقل الإسرائيلي. على أي حال، حملت الدعوة إلى «ورشة النصر» في شباط/فبراير 2019 الإشارة الأولى إلى هذا البحث. آنذاك، قيل في الصحافة العبرية إن رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، طلب من قيادة الجيش وضع خطة واضحة لتحقيق «النصر» في الحرب المقبلة «بطريقة لا يمكن التشكيك فيها»، ولسدّ أيّ ثغرات أمام تحقيق هذا «النصر». في التفاصيل، تقررت مشاركة أعضاء من هيئة الأركان العامة وقادة الألوية والكتائب الرئيسية، على أنه «لن يتم اتخاذ قرارات في تلك الورشة، وإنما الهدف إحداث تطوير في مفاهيم العمل العسكري لإحداث تغيير في الجيش وكذلك طريقة العمل ضد أي جبهة».
لم يمضِ سوى عام حتى بدأ العدو يتحدث عن خطة «تنوفا» (الزخم)، وفي العناوين قيل إن «الجيش الإسرائيلي يسعى إلى تطوير طرق جديدة لتحديد العدو الخفي واستهدافه في غضون ثوانٍ بعد اكتشافه عبر أجهزة الاستشعار والذكاء الاصطناعي»، وأنه «بعد عام من التخطيط يخوض صراعاً مع الوقت لتنفيذ الخطة»، وذلك «بإنشاء قوة شبكية يمكنها تدمير قدرات العدو في أقل وقت ممكن وبأقل تكلفة». ووفق مجلة «نيوزويك» الأميركية التي نقلت عن مصدر عسكري إسرائيلي (آذار/مارس 2020)، كانت الخطة تستهدف على وجه الخصوص حزب الله، من دون الإشارة إلى غزة. منذ ذلك الوقت، انبرت مراكز بحثية مثل «بيغن ــ السادات للدراسات الإستراتيجية» لمدح الخطة والإشارة إلى أنّ من أهم الجوانب التي يمكن ملاحظتها في «الزخم» أن الجيش استطاع بها تغيير مفهوم «النصر» عبر «تحوّل كبير للغاية في التفكير العسكري وتطويعه وفق تغيّر بيئة التهديدات»، قبل أن يخرج كوخافي نفسه ويعترف قبيل المناورات الأخيرة بأنه لا يمكن الحسم إلا من البرّ، إذ قيل أولاً إنه «لم يعد مجرد وصول القوات البرية إلى الأراضي المستهدفة» هو الهدف، بل «التدمير السريع لقدرات العدو بإزالة منهجية وسريعة لهذه القدرات، سواء كانت مراكز قيادة أو قاذفات صواريخ أو مخازن أسلحة أو مستويات قيادة للعدو أو أفراداً قتاليين»، مع الانتباه إلى عامل الوقت، خاصة أن الفشل في تحقيقها ثم استمرار تساقط الصواريخ يجعل «الجبهة الداخلية الإسرائيلية واقتصادها» يتأثران بصورة كبيرة، ما «سيحدث أضراراً جسيمة للدولة».

ثلاثة محاور
هكذا، شرعت مراكز البحث الإسرائيلية تشرح ميزات هذه الخطة ومستقبل الجيش إن نجح في تطبيقها (راجع الكادر: ماذا بقي من «الزخم»؟) والمقاومة تترقب. ولأن ما يُنشر عبر الإعلام العبري ليس دقيقاً وشاملاً بالضرورة، بل يمكن أن يكون موجّهاً ومقصوداً، كانت المقاومة تعمل استخبارياً وبصمت، لتحصل على التفاصيل الكاملة والدقيقة للخطة إلى حدّ أنها باتت تُدرّس في الأكاديميات العسكرية الخاصة بها، وبات الهدف إفشال ما أمكن من هذه المحاور أو كلها. تقرر أن الخطوة الأساسية لإحباط خطط العدو هي نزع المبادرة من الجيش الإسرائيلي الذي تعوّد مع غزة أن يختار الساعة الصفر، وهذا ما قلب الخطة كلها، مع أن العدو حاول تنفيذ ما يمكن من مخططه وفق الخطوات التي وضعها لكنه أصيب بارتباك كبير ومفاجآت أخرى. تقول مصادر المقاومة، إن المخطط يقوم على نظرية توافق عليها كوخافي وقيادة الجيش من ثلاثة محاور: الأول هو المعلومة الدقيقة (تحديث بنك الأهداف)، والثاني القتل السريع (الحرب الخاطفة)، والثالث القتل الكبير (الصدمة والتصفية بأيّ ثمن).
المحور الثاني من خطة العدو أقرب إلى «أكبر عملية اغتيال في التاريخ»


في المحور الأول لا بدّ من تحديث بنك الأهداف بعد «التجربة السيئة» في حرب 2014. آنذاك كانت الطائرات الإسرائيلية تستهدف أماكن (بيوتاً، شققاً، مواقع...) تكون فعلاً ملكاً للمقاومة لكن جرى التصرف بها تجارياً (بيع، إيجار...) لمواطنين آخرين لا علاقة لهم بها منذ سنة أو اثنتين ثم يتبيّن أنه لم يُسجل هذا التحديث. لذلك، صار تعزيز بنك الأهداف هدفاً أساسياً ومركزياً للخطة، لتعمل المقاومة في المقابل على تبديل كبير في هذه الأهداف والتصرف بها رغم التكلفة المالية لهذا الحراك. كما أنها ركزت على العملاء المزدوجين بصورة كبيرة (بثّت المقاومة خلال العامين الماضيين سلسلة من المقاطع الأمنية الموثقة ضمن أفلام وثائقية عُرضت على قنوات عربية وهذه المعلومات توضح جانباً من المعركة التي كانت تُدار عبر العملاء على الأرض). هذا كله أحبط فكرة «المعلومة الدقيقة»، فضلاً عن أن مبادرة المقاومة بإطلاق المعركة أعطى الفرصة بنسبة 90% لإخلاء الأهداف الممكن قصفها (فوق الأرض)، على عكس عنصر المفاجأة الذي كان يمكن أن يحرمها هذه الفرصة. فوق ذلك، استُفيد من تجربة حزب الله في حرب 2006 (محاربة عملية «الوزن النوعي»)، فابتكرت المقاومة أهدافاً وهمية لكن بما هو أوسع من منصات الصواريخ، إذ أنشأت مقاسم اتصالات وغرف قيادة ميدانية وهمية كي يضربها العدو ويظنّ أنه أنجز المحور الأول.
أما المحور الثاني (الحرب الخاطفة)، فهو نظرية إسرائيلية قديمة ــ جديدة، لكن زاد عليها العدو تكتيكات جديدة مثل «القتل السريع لأكبر عدد ممكن». في حرب 2008، مارس العدو هذا الأسلوب لكن نوعية العناصر التي تمّ استهدافها في الضربة الأولى (يوم السبت) لم تؤثر في المقاومة (استشهد مئات من عناصر الأجهزة الأمنية كالشرطة). صحيح أن هذا أحدث صدمة كبيرة في غزة، لكن في هذه التجربة يريد العدو أن يستهدف المفاصل الأساسية في العمل العسكري والتنظيمي للتنظيمات كلها في المناطق كافة. مثلاً لو كان في «كتيبة حي الزيتون» التابعة لـ«كتائب القسام» 500 إلى 700 عنصر، يجري تحديد 15 إلى 20 هم المفاصل الأساسية للعمل (القيادة الميدانية أو الأكثر تدريباً وفعالية وذكاء وروحية)، ولا سيما مسؤولي الوحدات (المدفعية، القوة الصاروخية، العاملين في مجال الطائرات المسيرة، القوات البرية الخاصة...)، من أجل شلّ بقية العناصر. بإحصائية أولية لهذه المفاصل (بتقدير إسرائيلي وأيضاً لدى المقاومة)، يجري الحديث عن «أكبر عملية اغتيال في التاريخ»، إذ ستستهدف أكثر من 450 كادراً فعّالاً في الضربة الأولى مع نسبة نجاح محتملة تُقدّر بـ70% بالحد الأدنى، ليصير الجهاز العسكري في التنظيم مشلولاً كلياً، ما يعيق استمرار المقاومة بصورة فعّالة. وفي حال تمّ هذا المحور، يكفي للإسرائيلي أن يحقق منه صورة النصر منذ بداية المعركة. هنا تحديداً أخذت المقاومة قرارها في اتجاهين. الأول توزيع خطة العمل التفصيلية على كل عنصر بحدّ ذاته، أي لو استشهدت المستويات القيادية المتعددة كلها، يبقى كل فرد يعلم ما عليه فعله في منطقته بأكثر من سيناريو حتى النهاية. الثاني هو أن المقاومة سعت إلى تقليل خسائر الضربة الأولى الخاطفة (القتل السريع) إلى ما بين 20% ــ 30%، وذلك بأن تمنع ظهور الكوادر الفعالة ومفاصل العمل على «الرادار»، باعتماد سياسة «التدوير» في العمل من فوق الأرض ومن تحتها، فلا يكون فوق الأرض سوى ثلث القوة العاملة لتمارس حياتها الطبيعية، على أن يكون الثلثان تحت الأرض، ويجري التدوير بينهما. لكن هذا الإجراء على مدار شهور أرهق المقاومة وقد لاحظه الإسرائيلي، ولذلك كان الحل الأمثل نزع المبادرة من العدو.

تقرر ألا يظهر على «رادار» العدو أكثر من 20% ــ 30% من الكوادر المهمين والمقاتلين (الإعلام العسكري لـ«كتائب القسام»)

انتقالاً إلى المحور الثالث تقرر إسرائيلياً أنه في الضربة الأولى لا بدّ لنجاحها من تطبيق نظرية أخرى ــ حتى لو تعارضت مع المحورين السابقين ــ هي القتل الكبير أو الجماعي. فمثلاً لو كان هذا الكادر وسط عائلته أو في السوق بين مئة شخص أو داخل برج سكني، يُضرب الهدف بدون تردد، الأمر الذي أحبطته المقاومة في إجرائها الوقائي ضد المحور الثاني، وهو فعلياً ما حاول العدو تطبيقه خلال بعض أيام المواجهة الأخيرة في شمالي القطاع حينما دار حديث عن رصد قائد لواء الشمال في إحدى الأذرع العسكرية فضُرب مربع سكني كامل (تكرار محدّث لـ«عقيدة الضاحية»)، وكذلك في شارع الوحدة بمدينة غزة. لكن هذا المحور أخفق لأنه كان مرهوناً بنجاح المحورَين الأول والثاني. وبقراءة للأرقام التي قدمتها «حماس» و«الجهاد الإسلامي» للشهداء في صفوفها، يتبين أن المحاور الإسرائيلية الثلاثة لم تتحقق وبخاصة الأخير، إذ قضى من الصفّ الأول في «حماس» شهيد واحد ومن الصف الثاني 15، والبقية (نحو 35) كانوا مقاتلين. أما في «الجهاد الإسلامي»، فارتقى نحو 22 شهيداً منهم اثنان من الصف الأول و5 من الثاني والبقية مقاتلون. هذا تقريباً هو الشق العملاني الكبير في هذه الخطة التي تعدّ ضربة أولى لتحصيل النصر قبل بدء الحرب، ليجري بعدها تخيير المقاومة بين الحرب (مثلاً على قاعدة ثلاث أو أربع بنايات مقابل كل صاروخ يخرج من غزة)، وبين حل سياسي يشمل ملف الجنود وهدنة طويلة الأمد ودخول قوات عربية أو قوة فلسطينية مقبولة إسرائيلياً مثل القيادي المفصول من «فتح» محمد دحلان تحت عنوان «المنقذ» للغزيين حاملاً معه رزم مساعدات كبيرة مقابل إدارة القطاع سياسياً. ولضمان النجاح لهذه الخطوة، سيعمل العملاء وأطراف أخرى على تحريك الجبهة الداخلية ضد المقاومة جراء هول الصدمة من الضربة الأولى «القاضية والخاطفة والكبيرة» لتطالب بدورها المقاومة بحلّ سياسي عنوانه وقف العدوان بأيّ ثمن.

من الدفاع إلى الهجوم
في المرحلة الأولى، كانت المقاومة تفكر كيف تُحبط هذا المخطط. لكنها بالتعاون مع القوى الأخرى في محور المقاومة انتقلت إلى التفكير في «قلب» هذا المخطط ضد العدو نفسه. جاء القرار الأول بأن تكون الساعة الصفر بتوقيت المقاومة (السادسة مساء)، ما مثّل بحدّ ذاته إخفاقاً استخبارياً كبيراً للعدو الذي فوجئ بقرار المقاومة الجريء لاستغلال أول حدث ممكن، فجاءت الاعتداءات في المسجد الأقصى وتهديد أهالي الشيخ جراح بالتهجير ــ على خطورتها ــ لتكون فرصة تضرب بها المقاومة أكثر من عصفور بحجر واحد، وهو ما يجعل هذه الحرب استباقية لجهة المقاومة، ومواجهة أمنية واستخبارية قبل أن تكون عسكرية. هذا لم يكن كافياً في نظر المقاومة ومن معها لضمان الانتصار ميدانياً (أولاً) ولضمان تحقيق الأهداف السياسية بعد انتهاء المواجهة (ثانياً). فخرجت نظريات ومحاور بديلة عملت المقاومة على تطبيقها تباعاً، لكنها احتاجت إلى شرط مهم للنجاح هو تفعيل «غرفة العمليات المشتركة» ونقل مستوى التعاون بين الأذرع العسكرية إلى أفضل ما يمكن مع صياغة تفاهمات تفصيلية. أيضاً تقرر اعتماد تكتيكات حماية للكوادر العاملة في الميدان أمنياً وعسكرياً تضمّن «تصفير الإصابات» بين صفوف المقاومين خلال إطلاق الصواريخ أو المهمات الأخرى، لكن قيادة المقاومة تتحفظ على نشرها حالياً.
انتقلت المقاومة من إحباط خطة كوخافي إلى قلبها ضده وضد جيشه


يُشار هنا إلى أن عملية التدقيق جارية حالياً لدى قوى المقاومة وأجهزتها الأمنية للتثبّت من أمرين: الأول هل هناك خلل في عمليات التنقل أدى إلى انكشاف بعض المواقع، أو المكتب في أحد الأبراج حيث استشهد بعض القادة، أو أن هناك اختراقاً أمنياً بشرياً أو تقنياً ساعد العدو على الوصول إلى بعض المقاومين، علماً أنه بالنظر إلى تجارب سابقة، فإن عمليات الرقابة الجوية التي يجريها جيش الاحتلال خلال المعركة كانت لا تستهدف محاولة الوصول إلى منصّات أو مرابض للصواريخ قابلة للتفعيل فقط، بل مراقبة المقاومين الذين يتحركون بطرق لافتة وهم يعملون على إنجاز المهمة الأخيرة من تفعيل المرابض الصاروخية، ولا سيما أن بعض العمليات كانت تتطلب أن يتوجه مقاوم واحد فقط مزوّداً بخريطة أو بمعلومات توثّق له مكان المنصة، وأن يعمل على تفعيل العمل عبر نظام مرتبط بساعة توقيت، وعليه تنفيذ المهمة والعودة إلى قاعدته قبل وقت جيد من إطلاق الصليات الصاروخية، وهو ما جعل العدو يخفق في تحديد دقيق للأهداف حتى أنه ضرب أهدافاً مدنية لأنه يشك في احتمال أن تكون المقاومة استخدمتها، وهذه الإشارة تحمل دلالات كبيرة على النقص الكبير في المعلومات الاستخباراتية المجهّزة سلفاً، والفشل في تجميع معطيات أمنية خلال الحرب. وعندما تقررت الساعة الصفر، كان التنسيق بين «كتائب القسام» و«سرايا القدس» قد أنجز المرحلة الأولى بقرار شن الهجوم الصاروخي لكن قيادة «القسام» طلبت بعض الوقت الإضافي، لتظهر المفاجأة لاحقاً بأنها قررت مباشرة العملية بالصلية التاريخية نحو القدس، وهو ما مثّل عنصر مفاجأة حقيقياً ليس للعدو فقط، بل لحلفاء الكتائب داخل القطاع وخارجه، فيما عكست هذه الضربة الحرفيةَ العالية لدى «القسام» لناحية حجب المعطيات عن ورش التصنيع عندها عن أقرب المقربين، وهو ما اتضح بكون هذه الفرق تعمل بطريقة لا تتيح لكل من هو في الجسم العسكري الاطلاع عليها.

المحور الرابع الذي عملت عليه المقاومة هو ضرب الأهداف النوعية للعدو (أي بي أيه )

بالعودة إلى خطة عمل المقاومة، مثّلت المحاور المقابلة بدورها خطوات جريئة أخرى فاجأت العدو. المحور الأول أنه لا خط أحمر أمام المقاومة (مع الحفاظ على التدريج في العمل)، إذ لا يوجد ما هو ممتنع على المقاومة قصفه أو محاولة الوصول إليه بأي طريقة، من دون الالتفات إلى أي ضغط عربي أو دولي، وهذا تمّ منذ اليوم الأول. المحور الثاني هو اختيار التوقيت للضربات النوعية (تحديداً الصليات المئوية) وإعلانها مسبقاً والطلب من وسائل الإعلام ترقّبها، على نحو يُثبت عجز جيش العدو عن منع المقاومة ويثبّت مصداقيتها أمام جمهورها وأمام العالم، على أن يجعل هذا الحدث الجبهة الداخلية للعدو متيقنة من قدرة المقاومة على إيذائها وصدقيتها، وأن تفقد الشعور بأن الجيش يستطيع حمايتها وكذلك بوعود قادتها جميعاً السياسيين والعسكريين. أما استعمال كمية صواريخ من ثلاثة أرقام، فكان جزءاً أساسياً من هذا المحور لإيقاع صدمة وإرباك كبيرَين لدى العدو. المحور الثالث هو «المدن المحروقة»، والهدف منه أولاً إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر، وثانياً كيّ وعي العدو، إذ حينما تنتهي الحرب يخرج المستوطنون ليروا حجم الدمار والخسائر ويعلموا أن عامل الأمان بات مفقوداً إلى الأبد. هذا أيضاً تطلّب تعاوناً من الأذرع العسكرية كافة لتركيز الاستهداف في أوقات معينة على مدن محددة (أسدود أولاً عسقلان ثانياً بئر السبع ثالثاً) بصليات مكثفة تشلّ «القبة الحديدية»، مع مواصلة ضرب «غلاف غزة» وإبقائه ضمن هذه المعادلة. وهو طبعاً ما وسّع دائرة النار حول القطاع وجعل مفهوم «غلاف غزة» عسكرياً يزيد من 15 ــ 17 كلم إلى 45 كلم!
في ما خص مواجهة «القبة الحديدية»، لجأت المقاومة إلى نظام إطلاق استهدف ليس تغطية مساحات واسعة من مدن ومرافق الكيان فقط، بل ما يجعل الأمر صعباً على قيادة العدو في طريقة استخدام القبة. حتى أن الأمر بدا محبطاً لقادة العدو، فرغم ما مرّ من وقت على الحرب، لم يكشف جيش الاحتلال عن عدد الصواريخ التي وصلت إلى الأرض، فيما ستتوفر في وقت قريب الدراسة الكاملة من جانب المقاومة لناحية تحديد ليس فعالية القبة فقط، بل مدى نجاح المناورات التي تهدف عملياً إلى تعطيل «مركز تشغيل إشارات المرور» على ما يقول أحد الخبراء واصفاً عمل القبة بأنها «آلة تطلق رشقات صاروخية باتجاه أهداف تكون ضمن مرماها كما حددها الرادار»، لكنها تصاب بإرباك في حالة توسع المرمى من جوانب عدة، وهو ما يجعل الأخطاء كبيرة لناحية أن تصيب القبب بعضها بعضاً، أو لناحية أن تُوجه أكثر من قبة نحو هدف واحد، وهذا يحتاج إلى نشاط عملياتي هائل من جانب القبة حتى تتمكن من محاصرة كل الموجات الصاروخية في حال انطلقت في وقت واحد. كما جرى استعمال الإشغال التقليدي عبر استخدام رشقات مكثفة من صواريخ تقليدية جداً تنشغل القبة في مطاردتها لأنه لا يمكن لجيش العدو أن يستهتر بوصولها إلى الأرض وإيقاعها إصابات أو خسائر كبيرة، وفي هذه الحالة، يُتاح لصواريخ من مديات معينة ورؤوس تفجيرية ومصنوعة من مواد خاصة التفلّت من رقابة القبة والوصول إلى أهدافها، مع الإشارة هنا إلى أن العدو كان يعرف أن فعالية الصواريخ المنطلقة من غزة ليست في قدراتها التدميرية فحسب، بل في كونها تفرض على قيادة الجبهة الداخلية سلسلة من الإجراءات تكون نتيجتها تعطيل الحياة وبثّ الرعب في مساحات واسعة.
وسّعت المقاومة مفهوم «غلاف غزة» من 15 ــ 17 كلم إلى 45 كلم!


أما المحور الرابع الذي عملت عليه المقاومة خلال هذه المواجهة، فهو ضرب الأهداف النوعية مثل القواعد الجوية والموانئ ومجمّعات البترول ومنصات الغاز في البحر (للمرة الأولى)، بما يُحدث صدمة أخرى كبيرة لدى العدو قيادة وجيشاً وسكاناً. ثمة محور خامس، ربما كان الأبرز والأهم في هذه الحرب ويلغي بدوره جزءاً أساسياً من خطة العدو، هو فرض معادلة «تل أبيب مقابل الأبراج السكنية». وإن لم تنجح المقاومة خلال هذه المواجهة في تثبيت هذه المعادلة سريعاً فاضطرت إلى قصف تل أبيب أكثر من مرة لتحقيق ذلك، فإنها ــ بعد اليوم الخامس والخطأ الإسرائيلي في استهداف برج «الجلاء» الذي يحوي وكالة الأنباء الأميركية ــ استطاعت تثبيتها لاحقاً وحماية ما تبقى من أبراج تتركز غالبيتها في مدينة غزة. وأخيراً طوّر الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، هذه المعادلة بإعلانه في مهرجان الانتصار الذي أقامته الحركة في غزة أن أي اغتيال ينفّذه العدو ــ بحق القادة أو المقاتلين ــ سيقابله قصف تل أبيب فوراً ومن دون اعتبار لأيّ اتفاق. توازى مع ذلك محور سادس عمل على تثبيته رأساً قائد أركان «القسام»، محمد الضيف، ويقضي بشلّ المركز (الوسط) الذي حاول العدو إظهار أن الحياة تسير فيه بصورة طبيعية، وهو ما وسّع ــ مع بضعة صواريخ انطلقت من لبنان ــ دائرة دخول الملاجئ لتشمل أكثر من ستة ملايين إسرائيلي.
محور العمل السابع كان الاستمرار في الجهود الممكنة لإيقاع خسائر في صفوف جنود العدو بصورة مباشرة، والهدف لم يكن إعلامياً ــ أننا نستهدف العسكر فقط ــ بل منع العدو من التفكير في خيار التقدّم براً في أي حال، وأيضاً ملاحقته على «أرضه». استُعمل لتطبيق ذلك الصواريخ الموجّهة وتكثيف قذائف الهاون (تقرر تأجيل الاقتحامات أو الإنزالات خلف الخطوط أو عمل «الضفادع البشرية» إلى مرحلة لاحقة)، وهو ما احتاج أيضاً إلى تعاون وتنسيق فصائلي كبير، كما جرت الاستفادة من أمن المقاومة في جلب أهداف للضرب بعدما توارى الجنود بعيداً عن مدى الصواريخ والقذائف، الأمر الذي نجحت فيه «سرايا القدس» في أول يوم من المواجهة، وكذلك «القسام»، مع الحرص على أن تكون الكاميرا حاضرة قبل السلاح لتؤدّي هذه الضربات الجدوى المطلوبة منها. هناك محور أخير أرادت المقاومة تطبيقه لكنها لم تنفذه جراء إصرار مصري هو إنهاء الحرب بضربة مؤلمة تبقى في الذاكرة الإسرائيلية، وأعلنها أولاً المتحدث باسم «القسام»، أبو عبيدة، نيابة عن الفصائل كافة، وعاد السنوار ليوضح أن الضربة كانت ستشمل فلسطين كلها بثلاثمئة صاروخ في لحظة واحدة. لكن المقاومة عملت على استغلال هذا المحور لتثبيت وقف النار على طريقتها: نتوقف بالتزامن، ونحن آخر من ينتهي من القصف.

محاولات استدراك خائبة
مقابل كل هذا «الزخم» الذي أبدته المقاومة، حاول العدو استدراك ما ضاع من خطته باستعمال كثيف للنار (تطبيق بقايا خطة «الزخم»)، والمناورة بإشاعة الاجتياح البري لترتكب المقاومة أخطاء تجعل العشرات أو المئات من عناصرها على مهداف سلاح الجو، وقد وقع كثيرون من الصحافيين في الترويج لها ــ عن علم أو دون علم ــ وهو ما كانت المقاومة قد تحسبت له جيداً، واستطاعت بالرصد الجوي المشترك مع المقاومة الإسلامية في لبنان وبتعاون استخباري كثيف منع تحققه، خاصة بعدما تأكد لها أن الحشود البرية كانت على بعد كيلومترات (بين 5 إلى 8) من الحدود، وهو ما يتناقض مع مبدأ التوغل. كما أن غياب الحشود الكبيرة على حدود غزة (الحشود الكبرى بقيت في الشمال بحكم المناورة الملغاة، أو لم تكن معدة لمناروة مباشرة وفق برنامج العمل بفعل اندلاع المواجهة. كما أنه لم يتم حشد الاحتياط بصورة كبيرة) أكد للمقاومة أن مبدأ العمل البري منتفٍ ولا سيما بعدما فقد الإسرائيلي عنصرَي المبادرة والمباغتة. وتعبيراً عن هذا الإخفاق وجّه مسؤولون أمنيون إسرائيليون أمس انتقادات إلى «مناورة الخداع التي انتهت بهجوم محدود بتوقيت خطأ ونجاح محدود»، فيما رد الجيش بالاعتراف أن «السر كُشف وكان يجب علينا استغلال الفرصة». تلك المصادر قالت إن «الخطة الأصلية تتضمن إدخال قوات برية إلى القطاع الأمر الذي لم يخرج إلى حيز التنفيذ». ووفق صحيفة «معاريف»، «توقعوا في الجيش أن تدخل حماس أربع كتائب إلى الأنفاق وأنه نتيجة للهجوم الجوي الذي سيعقب ذلك سيسقط 800 قتيل منهم. وفق الخطة الأصلية من المفترض أن يبدأ عدد من الألوية بالدخول لكن الجيش قرر أخيراً الاكتفاء بالعمل وفق الخطة المقلصة». أما السبب، كما تقول الصحيفة، فهو أنه «منذ اللحظة الأولى لعملية الخداع أدرك الجيش أن مقاتلي حماس لم يدخلوا الأنفاق، رغم التقديرات بوجود بضع عشرات قبل ذلك، فأجّل الجيش الهجوم الجوي لكن الصورة لم تتغير بعد ثلاث ساعات، وفي نهاية الأمر تقرر شن الهجوم» الفاشل.

هذه الأنفاق ستكون كلها متاحف للمقاومة يزورها الناس بعد التحرير


يُذكر أن خطة كوخافي الخاصة بالعمل البري تستند إلى نظرية تولى شخصياً الترويج لها منذ توليه منصبه، وكان يحسم كل نقاش مع ضباطه وجنوده قائلاً إن النصر لا يتحقق من دون المناورة البرية، لكنه لم يكن يقُل ذلك في معرض الرد على أنصار نظرية الحسم من الجو، بل يشدد على أن تجارب المواجهات في غزة وفي لبنان، ومعها دروس الحرب السورية، تؤكد أن فعالية سلاح الجو تبقى من دون أهمية في حال لم تكن المناورة البرية هي الأساس. لكن العامل الإضافي يتصل بكون المناورة البرية في مذهب كوخافي تتعلق بأن المهمة الرئيسية في الوصول إلى مرابض الصواريخ تحتاج إلى عملية برية لا الاكتفاء بالقصف من الجو، خصوصاً أن أجهزة الأمن الإسرائيلية لم تدّعِ يوماً قدرتها على توفير بنك أهداف يشمل منصات الصواريخ، كما تعرف أنها عرضة لعمليات تضليل مستمرة من جانب المقاومة. ومع أن ما تقدم وتكشفه «الأخبار» يوضح السبب الحقيقي والتفصيلي لهذا الإخفاق، يصرّ العدو على أنه إخفاق ميدانيّ تكتيكيّ أكثر منه استخبارياً رغم فلتات اللسان والجدل الإعلامي الدائر. أما الحقيقة الكاملة التي تحدث السنوار عن جزء منها (بقوله إن نسبة الضرر لم تتعدَّ 5%)، فهي أن المقاومة تعمدت بخطة ذكية تسليم أنفاق فرعية محددة للعدو وكشفها عبر تحركات مدروسة لعناصرها فضلاً عن أنفاق وهمية. مع ذلك، لم يمنع هذا الإجراء وقوع بعض الخسائر وضرب بعض الأنفاق جراء أخطاء فردية أو الكثافة النارية للعدو أو حصول الأخير على معلومات استخبارية صحيحة، وهو أمر كان محتملاً لدى المقاومة لكنها عملت على تجنّب الخسائر الكبيرة، فلو حدث وضُربت مئة كيلومتر من الأنفاق، كما أشاع الجيش الإسرائيلي، لكان هناك مئات الشهداء، وهو أمر لا يمكن إخفاؤه. ومن المهم التنبيه إلى أن طبيعة القطاع تتيح للعدو عبر المراقبة الجوية فقط (علماً أنه يتكل بقوة على عناصر بشرية) مراقبة أشغال معينة في مناطق وبؤر تتيح له التعرف إلى ورشة تخص حفر أنفاق، خصوصاً أن عمليات الحفر والتثبيت توجب وجود ورش لصناعة المواد الخراسانية لا تكون بعيدة من الورشة، كما أن عمليات نقل الرمل من أمكنة الحفر لا يمكن أن تتم بطريقة مخفية تماماً ربطاً بواقع القطاع وطبيعته الجغرافية. ومع ذلك، يصير العدو الذي يمكنه في هذه الحالة التعرف إلى مدخل النفق في حالة عمى مع تقدم الوقت، لأن المدخل الرئيسي للنفق حتى لو امتد عشرات الأمتار، يكون مقدمة لعمليات تفريع لا يعلم بها إلا من يوجد داخل النفق نفسه. ثم إن كل عملية حفر تنتهي بإغلاق الفتحة الرئيسية التي انطلق العمل منها لأنها تعتبر «محروقة» وفق التصنيف الأمني، فلا يتم استخدامها لا للدخول ولا للخروج، بل تعتبرها المقاومة «نقطة ميتة». أما في ما يخص تركيبة هذه الأنفاق التي قال السنوار إنها تمتد إلى 500 كلم، فتتحفظ قيادة المقاومة عن ذكرها الآن، لكنها تتكلم حول «مدن كاملة تحت الأرض ومجهزة بمستويات متعددة».

كان مطلوباً إسرائيلياً تهييج الجبهة الداخلية ضد المقاومة (أي بي أيه )

هكذا، انهارت سنوات من العمل الإسرائيلي الدؤوب، فيما تقول المصادر في المقاومة الفلسطينية، إن «الفضل الأول يرجع إلى الرحمة الإلهية، ثم إلى العقول المبدعة في صفوف المقاومة التي ترى أنها انتقلت إلى مرحلة أخرى ومختلفة من العمل بعد عقود من العمل والتجربة والخطأ». كما تُرجع الفضل إلى محور المقاومة بدوله، إيران وسوريا، وقواه، حزب الله وقوى أخرى ـــ تحفظت على ذكرها الآن ــ «ليس على ما قدمته من مال وخبرات وأسلحة حصراً، بل معلومات وتنسيق أنقذا المحور كله وفي مقدمته غزة من كابوس كبير إن نجحت خطط العدو»، فضلاً عن «الاستعداد الحقيقي والفعلي للمشاركة في الحرب بصورة مباشرة لو تطلّب الأمر ذلك، أو بطلب مباشرة من المقاومة الفلسطينية »التي تؤكد المصادر أنها لم تفكّر أصلاً في هذا الطلب خلال المواجهة، بل كانت «مسيطرة ومستعدة للمواصلة ليس شهرين كما قدّر الاحتلال، بل ستة أشهر بالحد الأدنى». ترى المصادر ذاتها أنه من المصلحة الفلسطينية ألا تتدخل قوى أخرى خلال تلك المعركة «لأنها بدأت فلسطينية، ومن الجيد أن تنتهي بانتصار فلسطيني بحت حالياً»، كما أن «التدخل الكبير سيشوش على الحراك في الضفة والـ48 الذي أردنا أن يستمر كي يطلق مرحلة جديدة من الصراع بعد المواجهة». هذا كله لم يمنع التوافق بين أطراف محور المقاومة على أن يكون عنوان المرحلة المقبلة هو أن المساس بالقدس سيعني حرباً إقليمية تنتهي بإزالة الكيان، على أن يجري تطوير هذه المعادلات للوصول إلى «اتفاقات دفاع مشترك في الساحات كلها»، أي كما تقرر أن ضرب إيران يعني اشتعال ساحات المواجهة كلها، يجب أن يُتفق على أن أي ضربة للمقاومة في لبنان أو غزة يعني اشتعال الجبهتين معاً، وهو ما يجري بحثه في الأروقة المعنية. تختتم المصادر بأن هذه التجربة وما سيُكشف منها تباعاً ــ وفق الضرورات والمحظورات ــ ستكون جزءاً من التاريخ الفلسطيني، وأن هذه الأنفاق «ستكون كلها متاحف للمقاومة يزورها الناس بعد التحرير». أما أسئلة من قبيل: ما قصة «البروفا» التي تحدّث عنها السنوار، وما مستقبل العمل بين أطراف محور المقاومة، وما حكاية الطائرة التي أتت من حدود الأردن، وهل توجد ساحات عمل جغرافية أخرى لم تُكشف للعدو بعد وسيفاجأ منها...؟ فوعدتنا المقاومة بالحديث عنها في الوقت المناسب.


ماذا بقي من «الزخم»؟


لم يقدّم العدو في تهرّبه من المواجهة البرّية أي مبرّر عسكري واضح، متجنّباً الاعتراف بخوفه من وقوع قتلى وأسرى في صفوفه ــ بالمئات هذه المرة كما تعد مصادر في المقاومة ــ مع أن المحللين والإعلاميين الإسرائيليين تكلّفوا شرح هذه المخاوف. هذا بدوره ينسف صُلب نظريات أفيف كوخافي الذي ذكره السيد حسن نصر الله في أكثر من خطاب، بعدما قدم الأول نفسه على أنه من سيُخرج الأرنب من القبعة ويعيد المجد إلى إسرائيل وجيشها. وبما أن تحقيق النصر قبل الدخول براً لم ينجح، فإنه متعذّر حكماً من دون العملية البرية. مع ذلك، جرى التمديد لكوخافي عاماً إضافياً، ولا سيما أنه تغيّب على الساحة العسكرية الإسرائيلية أي نظرية جديدة بعد هذا الإخفاق الكبير، لتتركز الحلول على الجهود السياسية والاقتصادية، أو ما يسمى «الحرب الصامتة».
فكّك الزميل علي حيدر خطة «تنوفا» (راجع العدد 4349، في 27 أيار)، لكنّ عودةً إلى تفاصيل هذه الخطة تظهر كم أن العدو عجز عن تحقيق الحد الأدنى منها جراء سوء الحسابات وانتزاع المبادرة منه بل وقوعه في الحفر التي حفرها للمقاومة. كانت الخطة تتصور جعل الجيش «أكثر حدة وفتكاً بعد أن تتلقى الوحدات الميدانية ثروة من القدرات التي يتمتع بها حالياً المقر المركزي للجيش في تل أبيب»، وهذا يعني أن «الكتيبة الواحدة ستكون مرتبطة رقمياً بجميع القوى ذات الصلة في قطاعها وبإدارة المخابرات، فيما يتمكن قائد السرية من تفعيل طائراته الذاتية القيادة واستخدام شبكة القيادة والتحكم الرقمية التابعة للجيش لتنشيط الدبابات أو المروحيات أو وحدات الحرب الإلكترونية فور اكتشاف الأهداف الحساسة، مثل خلية مضادة للدبابات مختبئة في الطابق الثالث لأحد الأبراج». وكان مقدراً أنه إذا نجحت الخطة، فستكون للجيش الإسرائيلي في 2030 «آلة حرب شبكية أكثر فتكاً يمكنها تدمير قدرات العدو في وقت قياسي وبأقل الخسائر الممكنة». لكن واقع المعركة الأخيرة يقول إن المقاومة حوّلت كل هذه القدرات إلى خردة حديدية بلا عمل، أو بالحد الأدنى بلا تأثير.


ماذا يدور في عقل كوخافي؟


لمقاربة أدقّ للأسس التي وضع عليها كوخافي خطته، كتب ياجيل ليفي، وهو مؤرخ ودكتور في الجامعة العبرية المفتوحة، مقالة في صحيفة «هآرتس» الأسبوع الماضي، بعنوان «أفيف كوخافي: رئيس أركان الحيّز المكاني والقتل»، قال فيها إن «تصريحات كوخافي تكشف أنه رأى غزة كما رأى مخيم بلاطة (بنابلس) في حملة السور الواقي في 2002... أي بصفته مكاناً مزدحماً بالبشر وليس سوى مشكلة هندسية يجب إيجاد الحلول لها، والمدنيون هم فيها مصدر إزعاج». وبينما كانت حملة «حارس الأسوار» الاختبار الفعلي الأول له، «سيقرر التاريخ لاحقاً كيف اجتاز هذا الاختبار... لقد تعهد يوم تنصيبه بإعداد جيش فعال وحديث وفتاك، ليجرّ استخدامه كلمة فتاك انتقادات عليه»، يقول ليفي. ويضيف: «انطلقت خطة الزخم في فبراير (شباط) 2020 ولم يتردّد كوخافي في توجيه الانتقادات الضمنية إلى أسلافه والمستوى السياسي، فصار السعي إلى الانتصار وليس تحقيق الردع عقيدته التي لاقت إعجاب اليمين أيضاً». ويتابع الكاتب: «عندما تحدث رئيس الأركان أمام لواء المظليين في القوات النظامية وأوضح أنه في نهاية كل مرحلة من القتال يجب فحص الأضرار التي لحقت بالعدو والأهداف التي جرى تدميرها، كان يريد أن يقول إن نجاح المقاتلين يقاس أيضاً بعدد القتلى في الطرف الثاني، وهذا ليس اهتماماً جديداً لديه، بل سبق أن أصر في 2002 على قتل المقاتلين الفلسطينيين بدلاً من السماح لهم بالاختفاء أو حتى الاستسلام»، وهو ما سُمّي «تكتيك الموت» من «شخصية تكنوقراط ترى استخدام القوة العنيفة أمراً مركزياً... ولع كوخافي بالفلسفة يغلف عقيدته بلباس ناعم». ولذلك، يرى ليفي، أنه «ليس عجيباً أن رئيس الأركان أعطى تعليماته في سنته الأولى بإلزام القادة قراءة كتاب المتغيرات تحت النيران الذي كتبه العقيد دوغلاس ماكغريغور لأنه يراه مثالاً عملياً في عملية التغيير التي مرّ بها الجيش الأميركي مع أنه يشجع على القتل أولاً».
يكمل المؤرخ الإسرائيلي: «حتى لو كانت الزخم في بداية طريقها، ولا يمكن اعتبار عملية حارس الأسوار ثمرتها النهائية، ليس هناك شك في أن العملية عكست منطق الجيش الذي قاده كوخافي بعدما أعاد تنظيمه وحتى تربيته، كما أنه في تصريحه الذي أدلى به مع اندلاع العملية أقر أنه يوجد في الجانب الآخر في غزة واقع صعب لكنه لم يحدد الواقع المدني أو العسكري... ثم في بيانه المشترك مع نتنياهو وغانتس في نهاية اليوم السابع للقتال اختفت حتى هذه الإشارة وركز في حديثه على الضرر الذي ألحقه الجيش بأنفاق حماس... التي تمردت على النظام الحضري عندما حفرت الأنفاق تحت الأرض، ليعمل كما فعل في حملة الجرف الصامد (2014) حين رأى أنها ليست سوى مساحة يجب دفع مقاتلي العدو داخلها ثم تدميرها من الجو حتى تنهار عليهم... حتى أن المتحدث باسم الجيش أنتج شريط فيديو تنهار فيه المباني على وقع صوت الموسيقى!» ولذلك، يرى ليفي أن «هدم الأبراج الذي كان عنوان الاعتزاز في العملية العسكرية لم يكن إلا جزءاً من إعادة تصميم المساحات الحضرية، فلأهل غزة المبنى مسكن ولكوخافي منشأة عسكرية من اللحظة التي يوجد فيها أعضاء من حماس»، مستدركاً: «يبدو أن الجيش الذي يمتلك أفضل استخبارات في العالم لا يعرف أن تدمير المبنى يساهم في انهيار الطبقة الوسطى في غزة، التي تستطيع ممارسة الضغط على حماس لتليين مواقفها... الكراهية المتراكمة عند سكان غزة تجاه إسرائيل التي تغذيها بنفسها بجهود عسكرية متواصلة لا تنجح في تحريك وعي أحد رؤساء الأركان الأكثر تعليماً من أولئك الذين خدموا هنا».
*ساهم في ترجمة المقالة مركز «أطلس للدراسات والبحوث»


كم صاروخاً لدى المقاومة؟
تشير تقديرات العدو الإسرائيلي إلى وجود 16 ألف صاروخ لدى فصائل المقاومة كافة في قطاع غزة، فيما ذكرت تقديرات أخرى أن العدد يراوح بين 50 و60 ألفاً. ترد المصادر على ذلك بالقول إن «العدد ليس مهماً... نحن تجاوزنا فكرة العدد منذ الحرب الأخيرة، لكن يكفي النظر إلى معدل الإطلاق (400 صاروخ يومياً) مع تأكيدنا أنه معدل مريح وعادي بالنسبة إلينا، ثم ضربه بـ180 يوماً، لأخذ فكرة أولية!»، مشيرة إلى أن «ورشات التصنيع بقيت تعمل بكفاءة وفعالية خلال الحرب»، وزادت وتيرتها بعد الحرب «خصوصاً بعد شحنة المعنويات الأخيرة»، وهي كفيلة بالتعويض بنسبة الثلث مما تقصفه الأذرع العسكرية يومياً. وبينما تتحفظ المصادر نفسها عن نشر تفاصيل كثيرة في هذا الإطار، تكتفي بذكر أن العدو اكتشف في هذه الحرب أن توزيع الصواريخ جرى على محافظات القطاع كافة بعدما صار لدى المقاومة مديات كبيرة، وهو ما أفقده القدرة السابقة على ضرب الوحدات الصاروخية التي كانت متركزة أكثر ما يكون شمالي القطاع، الأمر الذي يجعل مجال المناورة أوسع لدى المقاومة والقدرة على الاستمرارية بالقصف أطول.


النخالة: تل أبيب مقابل حياة مقاتلينا وقادتنا
وجه الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين»، زياد النخالة، رسالة إلى قادة العدو قال فيها «إن أي عملية اغتيال، تستهدف مقاتلينا أو قادتنا، في أي مكان، وفي أي زمان، سنردّ عليها في الوقت نفسه بقصف تل أبيب قولاً واحداً... رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ». وشدد النخالة، في كلمته خلال المهرجان الذي نظمته «الجهاد الإسلامي» أول من أمس احتفاءً بانتصار معركة «سيف القدس»، وسط مدينة غزة، على أن «الحركة ملتزمةٌ بمقاومة الكيان الصهيوني، ولن تتوقف عن قتاله حتى يرحل عن أرض فلسطين، مهما كانت التضحيات». وتابع: «هذه الجولة من القتال بيننا وبين العدو لم تنتهِ بعد، ومقاتلونا ما زالوا جاهزين لاستئنافها في أي وقت... استجبنا لإخواننا في مصر وقطر الذين نقدّر جهودهم في وقف العدوان على شعبنا، والتزمنا وقف النار المتزامن والمترابط بما يخدم ما انطلقنا من أجله، وهو حماية أهلنا في حي الشيخ جراح، وعدم المساس بالمسجد الأقصى».
(الأخبار)


... ما لم تستعمله المقاومة
تقول المصادر في المقاومة إنها أعدّت خططاً لا تقلّ نوعية عن الأداء الذي أظهرته الوحدات الصاروخية والمدفعية على صعيد البر والبحر. لكن الظروف الميدانية ومسار المعركة لم يسمحا بتفعيل هذه الخطط أو بعمل بقية الوحدات سوى الدروع والقناصة والاستخبارات وأمن المقاومة. وأضافت أن «ما سيلقاه العدو لو كان قد قرر الاقتراب من غزة، وليس مجرد الدخول إليها، كان أعظم مما يتصور»، موضحة: «طوّرنا الخطط لنكون في مرحلة لا ننتظر فيها العدو ليدخل بل ليقترب من الحدود فقط». وبالنسبة إلى باقي المفاجآت، قالت المصادر إن ما كشفته المقاومة لم يتعدّ «3 أوراق قوة ومفاجأة من أصل 10». وحتى على صعيد الصواريخ هناك ما لم يُكشف بعد، ليس على صعيد المدى تحديداً، وإنما على مستوى القدرة التدميرية والتوجيه وطرق تجاوز «القبة الحديدية». وإن كانت المقاومة قد كشفت بعض التفاصيل خلال الأيام التي تلت انتهاء الحرب حول بعض الصواريخ، فإن ما بقي «أكثر بكثير» من ذلك، تقول المصادر. كذلك، هي ترفض التعليق على ما أورده حساب INTELSky على «تويتر» المتخصص في الرصد الجوي، حين أورد أنه في الصلية الكبيرة الثانية ضد تل أبيب استُعملت صواريخ ذات رؤوس انشطارية، قائلة إنها تترك هذه التفاصيل للعدو كي يعرفها، ثم ــ إن أراد ــ أن يعترف بها.