غزة | يُشعرك قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى الشفاء المركزي غرب مدينة غزة، وأنت تتنقّل في ممرّاته المكتظّة بأعداد كبيرة من المصابين، بهول ما شهده الطاقم الطبي الذي عمل بكامل طاقته على مدار 11 يوماً من الحرب. الأطباء والممرضون لا يزالون لا يستطيعون السير على نحو طبيعي بين الأسرّة، فهم يواصلون الركض الذي اعتادوه في الأيام الماضية. صحيح أنه بعد أيام من انتهاء العدوان توقّفت حالة «الطوارئ القصوى»، لكن حالة الإشغال في أسرّة المستشفى وصلت إلى أعلى مستوياتها. والسبب أن مستشفيات المحافظات الأخرى تلجأ إلى تحويل الحالات الصعبة إلى «الشفاء» بوصفه المجمع المركزي.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
الأزمة ليست حصراً في الاستهداف المكثّف لمنازل المواطنين، والذي خلّف إصابات بالمئات وصلت أعداد كبيرة منها على نحو متزامن. يقول الدكتور هاني الهيثم، وهو مدير القسم: «هذا الحدث ليس جديداً، فهي الحرب الرابعة... الطواقم الطبية امتلكت من الجلادة والقدرة على العمل تحت الضغط ما يؤهّلها للسيطرة على الأحداث الكبيرة»، مستدركاً: «هذه المرّة الأولى التي نواجه فيها عدواناً بهذا المستوى، ونحن أصلاً في حالة إشغال تامّة بسبب موجة كورونا الثانية التي وصل عدد الوفيات فيها إلى 20 حالة يومياً، والمصابون فوق الألفين».
وكان قطاع غزة قد دخل منذ منتصف آذار/ مارس الماضي جولة ثانية من جائحة كورونا، بعدما وصلت أعداد المصابين إلى 107.442 حالة، والوفيات إلى 1007. وإضافة إلى ما سبق، ثمّة أزمات قديمة ــ جديدة متعلّقة بالشحّ الكبير في المستهلكات الطبية. يضيف الهيثم: «هذا الواقع نشهده في كلّ عدوان، فالمستهلكات الطبية في الوضع الطبيعي في مخازن الوزارة أصلاً أقلّ من الحاجة المعتادة». وفق الإحصاءات، تعامل مجمع «الشفاء» وحده خلال 11 يوماً مع ما يزيد عن ألف إصابة، علماً أن الطاقة الاستيعابية لقسم «الطوارئ» لا تتجاوز 50 حالة، خاصة أن هذا القسم بقي على حاله منذ أُسِّس عام 1987 حينما كان عدد سكان قطاع غزة لا يتجاوز 800 ألف نسمة، واليوم يزيد عن مليونين.
يُجمع الطاقم الطبي هنا على أن الموقف الأصعب الذي عاشوه كان استشهاد زميلهم الدكتور أيمن أبو العوف، وهو مسؤول قسم «كورونا» في المستشفى. يقول الهيثم: «كان الأمر مفاجئاً لأن الفاصل الزماني بين مغادرته المستشفى ووصوله شهيداً لا يتجاوز الساعتين... كان الدكتور أيمن مقيماً في المستشفى بصورة شبه دائمة ولا يغادر إلا للطارئ المهم». في تلك الليلة، غادر بعد أيام من مبيته للراحة والاستحمام، ليلقى حتفه في مجزرة شارع الوحدة منتصف ليلة 16 الجاري. لكن أكثر ما لا تستطيع أن تنساه الحكيمة ولاء أبو جريبان، المصابة الطفلة زينة الكولك، ابنة الأعوام الستة، التي انتُشلت من تحت ركام منزل أهلها في شارع الوحدة. كان على أبو جريبان أن تمتلك من الصلابة ما يكفي لتُقدّم إجابات مقنعة في كلّ مرة تَسأل فيها الكولك عن أمّها وذويها الذين تفصل بين أشلائهم وابنتهم الناجية ستارة زرقاء. تقول أبو جريبان: «ترافقني زينة في كلّ لحظة، بطريقة سؤالها وبكائها في كلّ مرة أعود إليها من دون أن يرافقني أحد من عائلتها... مشهد استراقي النظر إليها وإلى بقية أفراد أسرتها الذين غيّر غبار الركام ملامحهم، والأطباء يحاولون عبثاً البحث عن أحياء بينهم».
أمّا مالك أبو القرع، وهو مسؤول قسم التمريض، فيقول إنه من سوء الحظ أن العدوان تزامن مع عيد الفطر، ما زاد نسبة الإصابات بين الأطفال الذين خرجوا بملابس العيد وألعابه وعادوا أشلاء إلى المستشفى. يقول أبو القرع: «أزعم أن كلّ مَن يعمل في المستشفى شعر بأن واحداً من هؤلاء الأطفال هو واحد من أولاده، لكنه أسرّ ذلك في نفسه، لأن الاستسلام لضعف النفس غير مسموح في حالتنا». وبحسب إحصاءات وزارة الصحة في غزة، وصلت حصيلة العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 243 شهيداً بينهم 66 طفلاً و39 امرأة، فيما بلغت حصيلة الإصابات 1910.
«غادرْنا الطوارئ ولم تغادرنا»، يقول الحكيم محمود مطر، موضحاً أن «أكثر ما تعانيه الطواقم الطبية بعد العدوان هو شعورها الدائم بدوامة العمل». ويضيف: «تعود إلى المنزل، وذهنك يعيش حالة الطوارئ». وانعكس ذلك على قدرة العاملين على النوم، لأن العمل بجدول الطوارئ قرابة أسبوعين، والنوم ثلاث ساعات في كلّ 24 ساعة، جعلا من إمكانية النوم على نحو طبيعي متعذّرة، إلى حدّ أن محاولات النوم قد تمتدّ عشر ساعات متواصلة من دون جدوى!