«لديهم أموال كثيرة لكن ليس عندهم اقتصاد، فليس الاقتصاد كثرة الأموال»عبد الله البردوني

من الممكن تقصّي تجذُّر تَبِعَات الاقتصاد الريعي على عقلية الطبقة الحاكمة السعودية، وبالتحديد وجهها محمد بن سلمان، في جملة وحيدة ذكرها في مقابلته الأخيرة؛ إذ يقول إنه يستطيع أن ينفق إنفاقاً عالياً يستنزف فيه مدخرات صندوق الاستثمارات العامة والبنك المركزي وأن يخفض البطالة في يوم واحد إلى 3%، إلّا أن هذا الأمر غير مستدام ويخلق مشكلة بعد عدة سنوات. تكمن المسألة هنا، في تصوّر ماهية العمل والوظيفة في مخيال الأمير، فما العامل هنا سوى «تسريب» للموارد، وما العمل سوى حساب مصرفي يتم تحويل الريوع إليه لتُستهلك وتضمحل (ضريبة القيمة المضافة في شكل من أشكال محاولات الحد من هذا «التسريب»).
يٌفهم هذا التصوّر إذا ما وُضِع في سياقه التاريخي بأن تعريف العمل والعمّال في الخليج، وعلى مدى عقود، يتّخذ هذا النمط، ضمن الشبكة الهائلة لتوزيع ريوع البترودولار التي تقوم عليها الدولة. ففي الخليج، لا وجود لعمّال بالتعريف «الحديث»؛ أي تلك الطبقة من البشر التي تعمل في خطوط الإنتاج وتُستغل عبر سرقة الرأسمالي لفائض قيمة ذلك العمل المنتج. فحين يتحدّث موظف في الخليج في أحد القطاعات العامة وأغلب القطاعات الخاصة عن أنه يتم استغلاله وأن الراتب لا يكفي الحاجة، فهو هنا يتحدّث عن خلل في آلية توزيع أرباح النفط، وأن هذا التوزيع غير متكافئ، ولا يصله ما يراه نصيبه الذي يستحقّه. ترزح في هذه النظرة بالتحديد أهم المشاكل البنيوية في الدولة الخليجية، وعليه تبرز أهمية الحديث عن نماذج التنمية الاقتصادية حول العالم.
تشكّل «رؤية 2030» الإفصاح المادي لهذا التجذُّر والكسل؛ فما الرؤية سوى تنويع للاقتصاد عبر البحث عن مصادر ريع بديلة من النفط. ويجسد ذلك صندوق الاستثمارات العامة عبر الاعتماد على ريوع المضاربات المالية والاستثمارات في الأسواق العالمية. فحتّى ابن سلمان، وبشكل مباشر في مقابلته، شبّه صندوق الاستثمارات بـ«برميل نفط» جديد.
تعريف العمل والعمّال في الخليج يقع ضمن الشبكة الهائلة لتوزيع ريوع البترودولار التي تقوم عليها الدولة


لنبسّط المسألة عبر التفكير في رجل أعمال بربطة عنق في بورصة نيويورك أو لندن أو طوكيو ويتجوّل بحقيبته يبيع ويشتري في الأصول وتدرّ عليه أرباحاً خيالية وريعية الطابع، ويدعو ربه كل صباح ألّا تخطفه أزمة مالية دولية كما حدث في عام 2008. ثم لنستبدل هذا الرجل بعشرات من الشخصيات الاعتبارية تمثّل دولة بموارد كالسعودية وتضارب بأموال النفط العربي تحت عناوين التنمية، فيما يطلق عليه سمير أمين «التنمية الرثّة».

اليابان... في أن تكون عربياً، في أن تكون جنوبياً
يكرّر الكاتب السعودي، تركي الحمد، باستمرار، تشبيه الإصلاحات التي قام بها محمد بن سلمان بإصلاحات ميجي في اليابان نهايات القرن الـ19. وهذه المقارنة، من حيث المبدأ، ليست دخيلة على الأدبيات العربية، فقد جرت دراسات ومقارنات عديدة بين التنمية العربية منذ محمد علي باشا، وصولاً إلى تجارب القرن الماضي. بيد أن الفرق هنا، وفي حالة الحمد، هي تكشُّف «البلاهة الليبرالية» التي تختلجه وتختلج المثقّفين والشباب العربي الليبرالي. حاولتُ أن آخذ جولة في المقالات العربية المكتوبة حول إصلاحات ميجي على الإنترنت لأَصِلَ إلى النتيجة ذاتها التي تطرّق إليها الدكتور جورج قرم في العديد من مؤلفاته وأطروحاته حول هيمنة سرديات صراع الأصالة والحداثة في الوطن العربي. باختصار، ينظر الليبرالي العربي، وفي هذه الحالة تركي الحمد، إلى العالم من منظور الصراع مع التقليديين الإسلاميين. وعليه، تكون التجربة اليابانية ومسيرة التحديث ليست في مسائل الابتكار والتطوّر التكنولوجي والتصنيع وظهور عمل منتج وطبقة عاملة، بل إن محض المسألة هو في التخلص من التيارات التقليدية وتهميشها كما حدث مع نخب الساموراي و«تقاليدها البالية». بكلام آخر: خلّصونا من الإسلاميين والخطاب التقليدي ولنتبنّ مظاهر «حداثية» وبشكل سحري لنصل إلى نموذج التنمية والتصنيع ونمط الحياة في الغرب. وبناءً على ذلك، يكون محمد بن سلمان، وعبر إقصائه للإسلاميين، قد كرّر تجربة ميجي. (بالمناسبة: تحدّث المرحوم الدكتور رمضان عبد الله شلح عن مشاهدته برفقة الشهيد الحاج عماد مغنية لفيلم «الساموراي الأخير» وتأثُّرهما به. شاهِدوا الفيلم من هذا الخلفية وستفهمون ما يدفع الليبراليين إلى هذه الاستعارة التاريخية الغبية والمغلوطة).
بالعودة إلى قرم، فهو لديه نقطة محورية في هذا الجانب، حيث يعيد تعريف الأصالة بأنها تكمن في حيوية الشعب الفنية والإنتاجية وخصوصيته في طرائق الإبداع والإنتاج، وليست الأصالة في ثبات البنى الفوقية من أدب وقانون وأشكال السلطة. يعطف على هذه النقطة، النموذج الذي يتحدّث عنه تركي الحمد، فهو ليس بحداثة بأيّ شكل من الأشكال، بل هو البنى الفوقية والقانونية ذاتها وشكل السلطة ذاته (من بيعة لولي الأمر وشريعة والقرآن دستوراً)، بيد أنها ارتكزت على «أصالة» أخرى عبر إعادة إنتاج الدين «محمد سلمانياً» ليكون هو النسخة الجديدة للإسلام الأصيل دون تدخُّل «المتطرفين»، وأن الليبرالية والتحرّر هي في ذاتها مستقاة من الدين الحنيف «الحقيقي». بمعنى أن «الحداثة» الليبرالية العربية (من باب نَسب السوء إلى أهله فهي حداثة محمد راشدية) هي أصالة ولكن «أجمل» وتناسب الانتفاع الطبقي لمريديها.

«رؤية 2030» ليست سوى تنويع للاقتصاد عبر البحث عن مصادر ريع بديلة من النفط


هنالك بُعد آخر إشكالي من الاستعارة التاريخية اليابانية، نعم من الممكن، بل يجب، الاستفادة من أبعاد منها كغيرها من التجارب البشرية. إلّا أن عليك كعربي أن تعي دائماً أنك تنتمي إلى كتلة بشرية مختلفة جغرافياً وتاريخياً ضمن إطار الجنوب العالمي. دائماً ما يؤكد المرحوم سمير أمين حين ذِكره ما أَطْلَق عليه الثالوث الرأسمالي (أميركا، وأوروبا، واليابان) أن مسألة «اللحاق» بهذه النماذج مستحيلة، فحتّى لو أردتَ الوصول إلى مستوى من العيش والرغد على شاكلة المجتمع الياباني، فأنت لن تستطيع، بل يجب عليك ألّا تتطلع إلى ذلك، خصوصاً إن فهمتَ حيثيات الهجوم الاستعماري لليابان في كل من كوريا ومنشوريا والصين. المسألة هنا أبعد ما تكون عن التثبيط وبث الوهن في النفوس، بل كل ما في الأمر هو تأكيد أهمية فهم الشروط التاريخية والمكانية لكل نموذج تنمية؛ وأنه ولكونك عربياً وجنوبياً تُمسي لمشروع التنمية المستقلّة والمستدامة حقيقة وشرطاً محتّماً بأنه كُتب عليك القتال وإن هو كرهٌ لك.

النفط والصناعة وإيران
في وضع طبيعي، وبل من البديهيات في حال كنت تتمتّع بالسيادة، أن تشكّل مع الدولة الجارة التي تتقاسم معها ساحل الخليج العربي، وهي بدورها دولة نفطية ريعية، حالة من التفاعل في فهم النمط الاقتصادي لدول طرفي الخليج. لكننا اليوم، ولأسباب معروفة، في مرحلة من السوء أن من المستحيل أن تناقش إيران بتجرّد وموضوعية مع شرائح واسعة من مجتمعنا العربي. والأمر ليس لأنه ليس لديك المقدرة على ذلك، بل يعود السبب إلى حالة الاستنفار الهويّاتي لدى الكثيرين؛ فكأيّ مجتمع مستنفر على عصبيات هوياتية، تتعدّى المسألة عدم القدرة على فهم الآخر إلى عدم الرغبة في ذلك. فهو بكل وضوح، لا يريد فهم الآخر، بل ويصبح فهمه بتجرّد وموضوعية خطراً عليه، بمعنى أنه يعتاش على سردية وأدوات تحليل معينة ضمن إطار التفسير الطائفي والعرقي والإثني، ومن دون هذه الأدوات ينتفي وجوده على الخريطة السياسية. لذلك، من المَشاهِد المؤسفة اليوم (وهي مشروع عملت عليه الولايات المتحدة منذ غزو العراق) أن الشباب العربي الذي نشأ في العقد الأخير ضمن حالة الاستقطاب والانقسام العمودي الحادّ، لديه حالة عزوف عن فلسطين، حيث إن أدواته التحليلية والسياسية والتحشيدية التي يتبنّاها في الصراع الأهلي على طول الهلال الخصيب تُمسي بلا فائدة. وعليه، لا ترى هؤلاء يبرزون إلّا حين تستعر الحروب الأهلية والمأساة في وطننا من جديد، فهم حرفياً يعتاشون عليها كمصاصي الدماء.
بالعودة إلى البديهية، لعلّ الاقتصادي الإيراني، حسين مهدوي، الوحيد، ومنذ الستينيات، الذي قام بمراكمة أدبيات تحلِّل النمط الاقتصادي المتشابه على ضفتَي الخليج، ضمن إطار تحليله النظري لديناميّات الدولة الريعية. يصف مهدوي حالة التنمية الاقتصادية في دول غرب آسيا النفطية بـ«دولوية اعتباطية»، ويقصد بذلك أنه سَمَتْ على حالة سيطرة الدولة بشكل ضخم وفجائي على الوضع الاقتصادي بُعيد اكتشاف النفط، سِمَة الاعتباطية والفوضوية. فهذه الدول لم تتخيّل أنها ستملك هذا القدر من الثروة من دون الحاجة إلى فرض الضرائب في هذه المدّة الزمنية القصيرة. ذكَّرَتني هذه النقطة بما ذَكَرَه روبيت فيتاليس، في كتابه «مملكة أميركا»، بأن أميراً سعودياً أخبره في هذا السياق: «إنني أشعر وكأننا نزلنا من الفضاء».
يكمل مهدوي تحليله بأن هذا الريع صَنع حالة من قصر النظر للطبقات الحاكمة لهذه الدول، ليربط في مؤلفه بداية السبعينيات بين كل من الريع والجمود السياسي والاقتصادي، بل وحتّى الثقافي في المجتمع (هنالك علاقة مباشرة بين حيوية المجتمع ومدى إنتاجيته الصناعية، بمعنى أن هنالك رابطاً بين صناعة السيارة في المصنع وصناعة السينما والفنون على المسرح)، وليبيّن بحذاقة أن الاقتصادات الريعية تميل بشكل ذاتي وتؤوّل لتبْني اقتصاد الخدمات.
في خلال الستينيات، كتب مهدوي مقالاً في «فورين أفيرز» بعنوان «الأزمة المقبلة في إيران»، يتحدّث فيه عمّا سمّاه الشاه «الثورة البيضاء»، وهي مشروع إصلاحي تحديثي جاء كردّ فعل ومحاولة لاستيعاب آثار الانقلاب على الرئيس الوطني محمد مصدق، وهو شبيه للرؤية السعودية اليوم من ناحية حالة التحديث القشرية. حاول رئيس الوزراء حينها، علي أميني، القيام بمشاريع صناعية تحديثية بشكل شبيه لمصدق، إلّا أن السطوة الغربية منعته وحدَته (مرّة أخرى: وهو كرهٌ لكم). أمّا مهدوي، فكان منذ حينها يستشرف الأزمة، داعياً إلى تبنّي نموذج اقتصادي قائم على الصناعة والإنتاج.

فشل مشروع الدولة العربية، ومنذ بدايات القرن الماضي، لا يعني أن الدول العربية لم تحقِّق مكتسبات


غرضي من هذا الاستعراض لإيران نقطة مركزية واحدة، تنطلق من خصوصية تاريخية لإيران كدولة تعتمد على النفط تحديداً بعد انتصار الثورة. ففي حين أن الدول النفطية التي تتسم بقصر النظر والكسل، عملت على تأجيل حتميّة تغيّر دور النفط في الاقتصاد العالمي، فإن إيران ولأسباب لا علاقة مباشرة لها بالحنكة الاقتصادية اضطرّت إلى إعادة هيكلة الاقتصاد لتلعب فيه الصناعة دوراً محورياً. السبب هنا يعود إلى العقوبات؛ فإن كانت الدول الخليجية تستشرف نهاية النفط في منتصف القرن الـ21، فلأسباب تتعلّق بالعقوبات الأميركية وجد الإيرانيون أنفسهم مع مخزون نفطي لا يمكن بيعه، أي إن الحتمية التاريخية لنضوب النفط وانحدار قيمته حدثت بالنسبة إلى الإيرانيين قبل عقود من زمنها المتوقّع بالنسبة إلى الآخرين.
قبل عام، عُنون مقال في موقع «بلومبرغ»: «التصنيع يمنح إيران شريان الحياة»، حيث يشير الكاتب إلى أن القطاع الصناعي في إيران، من البسكويت إلى السيارات (أي بالمعنى الاقتصادي من المواد ذات القيمة المضافة المتدنية إلى القيمة المضافة العالية) أسهم في تقويض آثار العقوبات. تعدَّت، قبل سنتين، الموارد غير النفطية، ونصفها من الصناعات، الموارد النفطية، وللمرّة الأولى في تاريخ إيران الحديث. ومن ناحية التوظيف، خلق هذا القطاع بين عامَي 2018 و2019 وظائف منتجة (وليست توزيع ريوع) تعدّت تلك التي خسرها الاقتصاد من جرّاء العقوبات الأميركية في خلال الفترة ذاتها. (بالحديث عن العقوبات، أصدر عام 2017 المسؤول عن ملف العقوبات الجماعية الأميركية على إيران المدعو ريتشارد نيفو، كتاباً عنونه بـ«فنّ العقوبات»، وقبلها على الجانب الآخر أطلقت الفنانة العراقية الراحلة نهى الراضي في كتابها يوميات بغدادية لقب «فنّ الحصار» على مجسمات فنية صنعتها من مخلفات الحصار الأميركي على العراق، توفيت الراضي عام 2004 بسرطان الدم وكانت تحاول مقاضاة الولايات المتحدة في أن الحصار تسبّب في مرضها، هذه هي إنسانية الرجل الأبيض).
خلاصة هذا السرد، أننا أمام شاهد حسّي على نموذج فتيّ، وإن كان هجيناً وغير كامل، لمشروع ما بعد الدولة النفطية قائم على الإنتاج والصناعة.

خاتمة: لنَحمِ القطاع العام
إنَّ فشل مشروع الدولة العربية، ومنذ بدايات القرن الماضي، لا يعني أن الدول العربية لم تحقِّق مكتسبات. هذه المكتسبات من دول هشّة ونحيلة لم تمنع الرغبة الاستعمارية في تقويضها. من الممكن اختصار أزمتنا كعرب - من معضلة التنمية إلى الشرخ الهوياتي - بأننا كأمّة لم ننجح في أن نُكسي عروبتنا طابع هوية الأمّة الحديثة التي تحتويها مؤسسات متماسكة قائمة على المواطنة والإنتاج الاقتصادي والمعرفي. إلّا أننا في هذا الجيل، ومن مسؤولياتنا المتراكمة، علينا المحافظة على هذا القطاع العام الهزيل والمساهمة في تنميته، سواء الذي تدمّره حروب التدمير الذاتي المدعومة غربياً في العراق وسوريا واليمن وليبيا، أم قطاعاتنا وثرواتنا الوطنية التي يفكّكها شيوخ وأمراء النفط نيوليبرالياً.
فبعيداً من عدمية المعارضات العربية واستجداء الخارج لتدمير دولنا وفرض العقوبات، مؤسسات الدولة ومرافقها في الخليج واليمن والشام ومصر والمغرب العربي أمانة، ومن المسؤولية علينا تمكينها لتكون ركيزة لمشروع قائم على التملّك التكنولوجي في ظلّ نمط اقتصادي قائم على الابتكار والإبداع الصناعي.
ولذلك، علينا استنفار قدراتنا الإبداعية والإنتاجية للتغلُّب على قفص الاقتصاد الريعي لنكوّن عملاً حقيقياً ولنكون عمّالاً حقيقيين من الخليج إلى المحيط. وبالمعنى التاريخي للكلمة، فنحن عملياً، وكعرب، نعيش خارج التاريخ البشري. وإضافة إلى ذلك، أن نقف أمام محاولة إعادة إحياء الريع في تكرار للخطيئة الأولى ذاتها لندخل في الصيرورة ذاتها من جديد. باختصار شديد، علينا أن نرفض، بتعبير مظفر النواب، والذي يمكن أن يوسَّع ليشمل كل أشكال الريع من الرثّ إلى الريع الإمبريالي: «أن نوضع في العصارة كي يخرج منا النفط!».