أحد عشر يوماً كانت كافية لهزّ إسرائيل ومعها كامل العالم الغربي، الذي سارع، كالعادة، إلى محاولة لملمة فضيحة العجز العسكري الإسرائيلي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فكان وقف النار الإسرائيلي غير المشروط، وهو وقفٌ تماشى مع الفشل العسكري الواضح وعبّر عنه. وحتى الآن لا جديد، فهذا ممّا اعتدناه. أمّا الجديد الذي خلط الأوراق وعطّل الحسابات وفرمل الأوهام، كلّ الأوهام، التطبيعية والتسووية والالتحاقية، وقد لا يتأخّر في تبديدها تبديداً كاملاً، أن ما كان قبل التوثّب البطولي لغزة لن يكون كما بعده. وإشارات هذا الجديد واضحة وحاسمة وغير قابلة لأيّ نقاش، بدليل المعطيات السياسية الكبيرة التي نشأت والمعادلات العسكرية الاستراتيجية التي استقرّت. ففلسطين، كلّ فلسطين، من البحر إلى النهر، ومعها الشتات القريب والبعيد، قد توحّدت خلف المقاومة، ورفعت رايتها، وأعلنت تبنّيها الواضح والحاسم لهذا الخيار الوطني والقومي والأخلاقي والإنساني... وهذا إنجاز كبير وتحوُّل تأخَّر بعض الشيء، لكنه، وهذا هو المهمّ، كغيره من الإنجازات «الغزّية»، لن يكون بلا نتائج، وأوّلها عزل مستعربي رام الله ووُشاتها تمهيداً لكنسهم مع رعاتهم في الإقليم وفي العالم... إنه واقع إسرائيل الجديدة الذي استولدته المقاومة، وكتبته عقول مبدعيها وإرادة مقاوميها وصبر شعبها وتضحياتهم، وهو واقع يشي بالمزيد والمزيد. المزيد الاستراتيجي الذي سيقطع مرّة وإلى الأبد مع استقرار الأفكار وثبات الموازين! ولو كان الأمر غير ذلك لربّما استمرّت الحرب ومعها «الصمم» (الدعم المفتوح!) الغربي، ولربّما توسّعت. فقرار وقف الحرب، وهو من القرارات الصعبة على قيادة الحرب الإسرائيلية، جاء كنتيجة حتمية لحال المراوحة والعجز عن الوصول إلى تحقيق الحدّ الأدنى من الأهداف المعلنة أو المخفيّة.النتائج المباشرة الواضحة، وهي كثيرة وذات تداعيات تأسيسية على الصراع، لا يجب أن تحجب ما هو غير مباشر منها، وهي الأخرى لن تكون بلا تداعيات. وأوّلها أن الغلالة الرقيقة التي جرى أن تُخفّف من قباحة الوجه الاستعماري وبعضاً من مسؤوليّته التي لا لبس فيها عن أصل الكارثة، لم تصمد أمام نسمات الصواريخ التي ضربت العمق الإسرائيلي وطالت مراكز حيويّته السياسية والاجتماعية والاقتصادية جنوباً وشمالاً ووسطاً. فالمواقف الشنيعة التي صدرت عن عواصم القهر والقتل الغربي، بدءاً من واشنطن وباريس وانتهاءً ببرلين، أكدت لِمَن يتعامى عن الحقائق أو يزوّرها حقيقة العلاقة القائمة والشراكة الوريدية التي يعمد ليبراليّو (اقرأ: سفهاء) العرب وليبراليّاته إلى تغييبها. فهذه الدول الساهرة على استمرارية الكيان وجرائمه لا تملك إلّا الإخلاص لتاريخها المشبع بالدماء. فكان أن أجمعت التصريحات وركّزت على منح العدو حق الاستمرار في القتل بذريعة الحق في الدفاع عن النفس، وتشريع استهداف المدنيين والبنى التحتية. أمّا التراجع اللاحق، الذي فرضه الصمود وما نجم عنه من تحوّلات أهمّها التفاعل الشعبي العربي والعالمي مع غزّة ومقاومتها، والذي تجلّى في الحديث عن ضغوط مورست على قادة العدو لوقف الحرب، فهو في حقيقته جاء ليمنح قادة الكيان مخرجاً من المأزق الذي تعمّق في ظلّ المراوحة والعجز العسكريَّين، وكاد يفتح المنطقة على احتمالات «قيامية» ترسم نهاية هذا الكيان.
ضروري القول إن من المستبعد، بل من شبه المستحيل، من الآن وحتى إشعار آخر، أن تعمد قوى وحكومات الغرب، المسؤول الأول عن الكارثة المتمادية منذ مطالع القرن الماضي، إلى تعديل ولو لفظي في موقفها. ومن المستبعد أيضاً أن نسمع (مجرّد سمع) مواقف مختلفة طالما أن الكلفة المترتبة على هكذا مواقف غائبة. إن القوة وتدفيع الثمن وحدهما الكفيلان بجعل هذه القوى المتغطرسة تتردّد وتمتنع عن إصدار أيّ موقف معادٍ يصب في مصلحة العدو. أمّا حديث بعض الدول الرائج اليوم عن الاستعداد لتقديم المساعدات والعمل على تحسين شروط المعاش في غزة، وحتى المساهمة في إعمارها، فهو، في العمق والواقع، محاولة استدراكية خبيثة لتحسين شروط الاحتلال وجعلها أقلّ فجاجة، إنما أمتن وأصلب. وهو الفخّ الذي علينا التنبّه من الوقوع فيه. فالخبث الغربي بلا حدود، ونماذجه لا حصر لها، وهو لن يوفّر الفرصة لمحاولة احتواء النجاحات المسجّلة. فهذا الغرب هو الأب الشرعي لهذا الوجود الغريب ولكلّ ارتكاباته. وكلّ فصل بينه وبين الكيان هو من باب الوقوع في الفخ المنصوب. بل إن هذه الحكومات لن تتردّد في المبالغة في إظهار دعمها لإسرائيل طالما أن المردود هو المزيد من الصفقات والاتفاقات والمزيد من الأرباح التي تجنيها من مرتزقة الخليج الذين تجاسروا على فتح أبواب التطبيع، وهي الجريمة التي لا يجب أن تمرّ هي الأخرى من دون تدفيع تلك الرموز الخيانية ثمن فعلتها الاختراقية المعادية لمصالح المنطقة وشعوبها.
قد تكون مهام ما بعد الانتصار أشقّ من الانتصار بذاته


لقد نجحت المقاومة، من خلال صواريخها التي كسرت «المحرّمات» الأوسلوية والتطبيعية، في التأكيد مرّة جديدة أن الجذر الفعلي والوحيد لكلّ هذا الغلوّ الصهيوني وتمادي داعميه يكمن في التفريط والتهاون العربيَّين، وشيوع أوهام الحلول والرهانات على التسويات التي فاقمت من الوضع وهدّدت بضياع الهوية بعد الأرض.
وغير بعيد عن التطبيع وأهدافه، فرضت المواجهة، من جملة ما فرضت، تصحيح وتصويب معنى العروبة ومفهومها بوصفها صراعاً مع العدو الإسرائيلي ورعاته وأتباعه، وأفشلت محاولات الرجعية العربية وسعيها الحثيث المدجّج بالمال والعصبيات الظلامية إلى تشويه هذا المعنى باتجاه حرفه نحو إيران. فهذه العروبة المزوّرة كانت أوّل ما سقط. ولم يعد ممكناً بعد اليوم تسويقها أو الدفاع عنها، وخصوصاً بعد هذا الانتصار الواضح. كما أن من النتائج التي يبنى عليها سقوط أكذوبة الوقوف مع فلسطين ومعاداة المقاومة وتعرية مرتزقتها. المقاومة هي وجه فلسطين وهويّتها، وكلّ ابتعاد عن المقاومة هو في العمق والجوهر ابتعاد عن فلسطين ومعاداة لِحقّها في الوجود الحرّ.
نحن، اليوم، قولاً وفعلاً، أمام واقع جديد. واقعٌ ما كان ممكناً لولا صلابة الإرادة وجسارة القرار وحسن التخطيط وعبقرية الإدارة. اليوم، سقط «أوسلو» نهجاً ومساراً. عادت فلسطين إلى أهلها، وعاد أهلها إلى المنطلقات النضالية التي جرى تغييبها طويلاً وأساسها المقاومة. لقد تصدّعت «الأسوار» السياسية وهلك حارسها العسكري. وانتصرت فلسطين من النهر إلى البحر. وكتبت بدماء أهلها وتضحياتهم، وتخطيط قادتها الميدانيين وجسارة قرارهم وعظيم صبرهم، صفحة مجيدة من صفحات الغد الذي ظهرت أول خيوطه مع تحرير لبنان وانتصار عام 2006. أمّا «مركبات النار» التي أُعدّت لتحاكي حرباً شاملة متعدّدة الجبهات، وبمشاركة أسلحة الجيش المختلفة، فقد احترقت قبل أن تنطلق، ورسالة الردع التي توخّتها انقلبت على أصحابها جميعاً، وأوّلهم أفيف كوخافي، رئيس الأركان البائس، الذي لم يوفّر فرصة منذ وصوله إلى منصبه للحديث عن تغييرات مفصلية وعن استعادة الردع والمبادرة وغيرها من زجليات وأهازيج القوة. ففي امتحان غزة البسيط مقارنة بالامتحان اللبناني المرتقب، سقط هو الآخر كما أسلافه من الذين تناوبوا على المناصب وعلى توجيه التهديدات الفارغة.
قد تكون مهام ما بعد الانتصار أشقّ من الانتصار بذاته، لذلك، فالأولوية، اليوم، يجب أن تكون في السعي إلى خلق الأطر الجديدة، وتجاوُز تلك التي سقطت وفشلت، وفي المقدمة العمل الحثيث على خلق إطار جامع عِماده برنامج نضالي ذو مضمون ثوري واضح المعالم ودقيق الصياغات، أولويته المقاومة، من غير أن يلغي الهوامش التي تتكامل مع هذه الوجهة التي لا وجهة غيرها لتعزيز ما تمّ والبناء عليه، وصولاً إلى التحرير، الذي، بحسب خلاصات ما بعد غزّة، لم يعد بعيداً. كما من الضروري فتح حساب المرحلة الماضية، ولا سيما أن الخسائر الناجمة عن سياسات مهزومة وقاصرة ومتهاونة وتفريطية، كبيرة وكبيرة جداً. صحيح أن اللحظة، وقد تأخّرت، سمحت بمحاصرتها والحدّ منها، إلا أن القضاء عليها وعلى آثارها يستلزم وقتاً كُنّا في غنى عن إهداره في رهانات عقيمة وسياسات مستحيلة... وهذا يقتضي ملاحقة زمرة رام الله ومحاسبتهم على ما سبّبوه لشعبنا من ويلات. المصلحة الوطنية والقومية تفترض نبش ملفات المرحلة السابقة، وتعيين المسؤوليات عن الفظاعات التي أساءت ولا شكّ لمسيرة الكفاح الفلسطيني وشوّهت مساره البهي.
هنيئاً لك يا غزة، فمجدك قد عمّ فلسطين وأيقظ العالم العربي. وإنها لمقاومة حتى... النصر!



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا