ليس الحديث عن انقسام حزبي في الولايات المتحدة، إن كان داخل الحزب الواحد نفسه ــــ الديموقراطي ــــ أو بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، حيال قضيّة الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، تفصيلاً عابراً في سياق المنازعات الحزبية التي تفاقمت حدّتها في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب. وذلك عاملٌ يُهدِّد ــــ على المديَين المتوسّط والبعيد ــــ بتحويل المسألة الإسرائيلية والدعم المطلق للكيان العبري إلى قضية حزبية في الداخل الأميركي، يدعمها الجمهوريون ويعارضها الديموقراطيون، وهو ما من شأنه أن يضرّ بتحالف القوّتين، وإن كان الوقت لا يزال مبكراً لاستخلاص العبر. ويمكن، في هذا الإطار، التوقُّف طويلاً عند التحوُّل الذي رافق خطاب الرئيس الأميركي، جو بايدن، في أيّام معدودة، ليخلص إلى دعوة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في رابع اتصال بينهما منذ بدء جولة التصعيد الأخيرة، إلى «خفض التصعيد» في غزة «تمهيداً لوقف إطلاق النار، بعدما «دَعم» التوصُّل إلى هدنة في المكالمة ما قبل الأخيرة بينهما.يدور السؤال راهناً عن الأسباب الكامنة وراء هذا التحوُّل في موقف بايدن، والذي تدرَّج على نحوٍ عكَس دعماً أميركياً لامحدوداً للخطوات الإسرائيلية في الأيام الأولى للعدوان، وصولاً إلى «دعم» الرئيس الأميركي «وقفاً لإطلاق النار»، مع التأكيد على حقّ إسرائيل في «الدفاع عن نفسها»، كما ورد في بيان البيت الأبيض الذي أعقب الاتصال الثالث بين بايدن ونتنياهو. ولمّا فشلت الضغوط المشتغلة في أكثر من اتّجاه في إحداث التغيير المأمول، تبدّلت لهجة الرئيس الأميركي الذي أبلغ رئيس الحكومة الإسرائيلية أنه ينتظر «تخفيضاً كبيراً» في أعمال العنف اعتباراً من الأربعاء (أوّل من أمس)، «تمهيداً لوقف إطلاق النار»، في موازاة رفض البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة دعمَ مشروع قرار في مجلس الأمن اقترحته باريس ويدعو إلى وقف إطلاق النار، بقولها إن واشنطن «لن تدعم الخطوات التي تقوّض الجهود الرامية إلى وقف التصعيد»، وإنها «تركّز على الجهود الدبلوماسية المكثّفة الجارية»، علماً بأن مسودة النص تطالب بوقف فوري للأعمال القتالية وتندّد بـ»إطلاق الصواريخ العشوائي على مناطق مدنية».
نجحت مساعي بايدن في تقديم صورة إيجابيّة تحتوي حالة الاعتراض الشعبي والرسمي في الداخل الأميركي


مردُّ التبدُّل في لهجة بايدن ليس تحوُّلاً «إنسانياً» في الموقف من القضية، بقدر ما هو محاولة لِلَجم شرذمة الحزب الديموقراطي الذي يحوز غالبية في مجلسَي الكونغرس، ولكنها غالبية ضعيفة في مجلس الشيوخ (النصف زائداً واحداً)، ما يعني أن كلّ صوت سيكون له تأثير فيما لو أراد بايدن أن يُمرِّر أولوياته الرئاسية وأن يمضي قُدُماً في إنجاح عهده، من دون اعتراضات من أهل البيت الواحد، المنقسمين بشدّة حيال دعم إسرائيل في عدوانها الأخير على غزة. ولم يكن الرئيس الأميركي ليتصوّر أن يأتي اليوم الذي تُوصف فيه إسرائيل بأنها «دولة فصل عنصري» داخل قاعات الكونغرس، أو أن تُتّهم بارتكاب «أعمال إرهابية». ونتج من هذه المعارضة التي لم تَعُد تقتصر على الفرع التقدُّمي في الحزب الديموقراطي، بقيادة السيناتور بيرني ساندرز، أنْ تَقدَّم مشرّعون في مجلس النواب، للمرّة الأولى في تاريخ الكونغرس الأميركي، بمشروع قانون لحجب مبيعات سلاح دقيقة التوجيه قيمتها 735 مليون دولار لإسرائيل. وهو تطوُّر سارع النواب الجمهوريون إزاءه إلى حثّ بايدن على «الوفاء بالالتزام بعدم وضع شروط للمساعدة الأمنية لإسرائيل». وفي رسالة وجّهها نحو 100 نائب جمهوري إلى الرئيس الأميركي، قال هؤلاء إن «هجمات حماس على إسرائيل تؤكد بوضوح الأهمية الحاسمة لمساعدة الولايات المتحدة الأمنية لإسرائيل»، وأكدوا أنهم مستمرّون في معارضة أيّ تخفيضات للتمويل أو شروط إضافية على «المساعدة الأمنية لحليفتنا إسرائيل». وقادت النائبتان ألكسندريا أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب، والنائب مارك بوكان، جهود طرح المشروع (طرحه ساندرز في مجلس الشيوخ أمس) مع ستة نواب آخرين، من بينهم بعض الديموقراطيين الأكثر ميلاً نحو اليسار في المجلس. وقالت أوكاسيو كورتيز: «في وقت يدعم فيه كثيرون ــــ من بينهم الرئيس بايدن ــــ وقفاً لإطلاق النار، يجب علينا ألّا نرسل أسلحة هجوم مباشر لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لإطالة أمد هذا العنف»، فيما اعتبرت طليب أن «الحقيقة المرّة هي أن هذه الأسلحة تبيعها الولايات المتحدة إلى إسرائيل، وهي على علم تامّ بأنها ستُستعمل بغالبيتها لقصف غزة».
مساعي بايدن لوقف التصعيد، والتي أثمرت وقفاً لإطلاق النار دخل حيّز الاختبار اعتباراً من فجر اليوم، نجحت، كما يرى مراقبون، في تقديم صورة إيجابية تحتوي حالة الاعتراض الشعبي والرسمي في الداخل الأميركي، كما أنها أبقت على الفرصة متاحة لاستنقاذ نتنياهو الذي يبدو أنه لجأ إلى مبرّر الضغوط الأميركية لوقف الحرب، وذلك بعدما أظهر بايدن تفهّماً واضحاً لإسرائيل، ومنَحها فرصة زمنية حتى تحقِّق في خلالها ما تستطيع من «إنجازات»، ولكن مع تبيان الفوارق بين عهده وعهد الإدارة المنصرفة التي خرج رئيسها، ترامب، قبل أيام، ليشجب التقاعس الأميركي حيال دعم إسرائيل.
وكانت كلّ الإشارات المتأتّية تباعاً عبر الإعلامَين الإسرائيلي والأميركي تدلّ على اتّجاه تل أبيب إلى إعلان وقفٍ لإطلاق النار، اعتباراً من اليوم. وهو ما جاء متوافقاً مع أنباء ذكرتها «القناة 12» العبرية، أوّل من أمس، من أن هناك توافقاً بين المستويَين السياسي والعسكري في إسرائيل على التهدئة، وأكدتها صحيفة «وول ستريت جورنال»، نقلاً عن مصادر مطّلعة على المفاوضات بين غزة وإسرائيل. وأفادت الصحيفة الأميركية بأن «المسؤولين المصريين تمكّنوا من إحراز تقدُّم في المفاوضات مع قيادة حماس»، وبأن «الجيش الإسرائيلي اعترف بشكل سرّي بأنه اقترب من الانتهاء من تحقيق أهدافه». تساوق ذلك مع ضغوط في أكثر من اتجاه، إذ تحدّث مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، إلى نظيره الإسرائيلي، مئير بن شبات، في محاولة للضغط على إسرائيل من جهة، ومع مسؤولين مصريين للضغط على حركة «حماس» من جهة أخرى. من جانبها، قالت وزارة الدفاع الأميركية، «البنتاغون»، إن الوزير لويد أوستن قال لنظيره الإسرائيلي مرّة أخرى «(إننا) لا نريد أن نرى تصعيداً، بل نريد نهاية للعنف». وبحسب موقع «أكسيوس»، أبلغ وزير الخارجية الإسرائيلي، غابي أشكنازي، نظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، أن إسرائيل تحتاج إلى بضعة أيّام لاستكمال عمليّتها في غزة، لكن الوزير الأميركي شدّد على أن الولايات المتحدة تتوقّع أن تنتهي العملية، لأنها لم تَعُد تستطيع الاستمرار في دعم إسرائيل علناً ودبلوماسياً ــــ وخاصّة في الأمم المتحدة ــــ لفترة أطول.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا