براء يحيى عياش *
1

سيارة «بي إم دبليو» آخر موديل. صوت أغاني الهارد ميتال (hard metal) مرتفعة رغم الشبابيك المُغلقة. تقترب السيارة من «حاجز زعترة» وتبدأ بالتخفيف من سرعتها. أيّ شخص ذاهب إلى رام الله أو أريحا عليه أن يمرّ من هذا الحاجز. يجلس في السيارة شاب في أوّل العشرينيات من عمره، نظّارة شمسية من ماركة عالمية، شعر مُصفّف بعناية، يبدو أنّه ذاهب للسهر في رام الله، وقد سبقه أصدقاؤه بساعة أو أكثر، لهذا يبدو مستعجلاً ومتأفّفاً حينما طلب منه الجندي الوقوف وإبراز الهوية الشخصية، شخص آخر من بعيد ينظر... يرى سيارة BMW حمراء جميلة، عدد من الجنود حول السيارة، انفجار ضخم يحوّل المكان إلى معركة وأشلاء.

2


شاب يحمل كاميرا ماركة «كانون» حديثة، سعرها يفوق لا شك مرتّب الموظّف العادي في فلسطين، يجلس الشاب على حجر قديم بقدم مدينة الخليل، ساحة النبي إبراهيم معروفة بالاشتباكات الدائمة بين الاحتلال وسكّان المنطقة الأصليين، دائماً ما يعربد الجنود ويفعلون ما يحلو لهم، الشاب يُزعجه تكرار ما يحدث، على الرغم من أنّه من أسرة غنيّة ومرفهة، إلا أنه يفضل الملابس التي تحمل بعض الشعارات الفلسطينية، كأن يكون عليها خريطة فلسطين وكُتب بجانبها «وإنّي أحبّك». دخل جندي بناية سكّانية مرتفعة، على ما يبدو سوف يكرر ما يفعله كلّ أسبوع: الدخول إلى شقّة مأهولة وطرد ساكنيها بحجّة أنها أصبحت ثكنة عسكرية! أصبح الأمر روتينياً... صراخ العائلة والأطفال. نزول الأطفال بعدها بدقيقة من مدخل العمارة يبحثون عن مأوى بعدما أصبحوا مشرّدين. الشاب يسلّط الكاميرا على مدخل العمارة، يترقّب خروج السكان لكيّ يوثّق هذه اللحظة المؤلمة. تأخّر صوت صراخ العائلة المُعتاد... دقيقة من الصمت الرهيب، وإذ يمزق الصمت صوت صراخ... الجُندي الإسرائيلي يُلقى به من النافذة! ينظر بدون كلمة: الجندي يرتطم بالأرض على مدخل العمارة. لم يصوّر شيئاً هذه المرّة. لكنه ابتسم!

3


أهم شيء في كونكِ فلسطينياً أن يكون لديك سجل وطني، وهذا ما كان يفتقده صديقنا نمّال، على الرغم من شعره الأسود الناعم وحصوله على درجة الدكتوراه. إلا أن هذا لم يحسّن من نظرته لنفسه. فهو يعلم تماماً حقيقة «ميوله الوطنية»، المشكك بها لدى الكثير من أهله، كونه يعيش في مدينة أوروبيّة، ويمارس «وطنيته» من هناك، عن بعد. هذا الصباح كان نمال كئيباً أكثر من المعتاد، شعره منساب بطريقة غير مُهذّبة، سواد حول عينيه ووجه مترهّل ومُنتفخ... كل هذا يوحي بأنّه لم ينم منذ أيام، منشغلاً بالتفكير بوضعه! يخرج إلى آخر طبقة... يضع أصابع قدمه على حافّة عتبة البناية، ينظر إلى الأسفل، يعلم تماماً أن هذا أفضل شيء سيفعله للوطن... لكنه بعد ساعة يخرج على التلفاز يُدافع عن عرص ما.

4


عجوز تجاوز السبعين من عمره، شعر أبيض كثيف على غير المعتاد لمن هم في مثل سنّه، ولحية بيضاء تلمع بوقار، جلده محفورٌ بأخاديد تشهدُ على حياة حافلة، رغم كبر سنّه. يتذكر خاصة معركة بيروت الشهيرة.
عادَ الرجل إلى فلسطين قبل أوسلو، وأعلن بعدها أن الأمل في هذه الأمّة قد مات، وقرر التقاعد مبكّراً، في بدايات بناء جدار الفصل العنصري كانت أرضه، آخر ما تبقّى له في هذا الوطن، قد ضُمّت إلى ما وراء الجدار... ما وراء الحياة. واليوم بعد مرور السنين، قام بعض الشباب «الكيوت» (أي اللطفاء) بدعوة هذا العجوز للذهاب إلى أرضه. وبعد استفساره عن الأمر، تبيّن أنهم سيقومون بمسيرة سلمية بمناسبة يوم الأرض، حيث سيزرعون بعض الشتلات في أرض الوطن السليب.
عال. وصل العجوز وهؤلاء الشباب إلى المنطقة وبدأوا يحفرون في الأرض لزرع الشتلات، تحت أعين الجنود الذين حضروا إلى المكان وطواقم التصوير التي تفوق عدد المشاركين في هذه المسيرة... نظرات العجوز بدت كأنها ملوثة بظل من الذل. هكذا، حمّلوه الفأس وطلبوا منه أن «يأخذ وضعية» ليأخذوا له صورة لا أكثر... السيناريو مهيّأ تماماً لأخذ صورة ذليلة توضّح كيفية «تطور» مسيرات يوم الأرض التي قد تصبح يوماً ما مجرد دعاية لأنواع المبيدات الكيميائية.
لكن العجوز يرفع الفأس، يلتفت الى جانبه ثم يزرعه في رأس جندي مُبتسم.
* نجل الشهيد المهندس يحيى عياش