حظيَت الحرب الإسرائيلية على غزة بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الفرنسية. وتميّزت هذه التغطية، مع استثناءات قليلة جداً، بإنتاج معلومات غير كاملة، بل يمكن القول إنها منحازة إلى وجهة النظر الإسرائيلية. وعبر جولة في آفاق عناوين الصحافة ومقدّماتها، يمكن تقييم هذه الظاهرة. في 14 أيار/ مايو، تحدثت «لو باريزيان»، وهي واحدة من أشهر الصحف الإقليمية، عن «التوتّرات في الشرق الأوسط: 126 قتيلاً فلسطينياً وتسعة قتلى في إسرائيل». «ظهرت هذه التوتّرات، الأسبوع الماضي، في القدس الشرقية، وهي منطقة فلسطينية تحتلّها إسرائيل منذ عام 1967، حيث تمّ تهديد عائلات فلسطينية في أحد أحياء المدينة المقدّسة بالإخلاء لمصلحة المستوطنين اليهود». إن عرض الحقائق يضع الإجراءات الإسرائيلية على قدم المساواة، والتي هي جزء من عملية تطهير عرقي، مع مقاومة السكّان لسياسات التدمير المنهجي للوجود والهوية الفلسطينيَّين. هذا فضلاً عن أنّه جرى تمرير بعض الأحداث في صمت. تتجاهل هذه الصحيفة الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة خلال الشهر الماضي، ومداهمات الشرطة الوحشية للمسجد الأقصى، ومحاولات سلب منازل الفلسطينيين في الشيخ جراح، لتتحدّث، بدلاً من ذلك، عن «عائلات مهدّدة بالإخلاء» من قِبَل المستوطنين اليهود. إذاً، ستكون المشكلة مرتبطة بتطرّف هؤلاء المستوطنين، وليست جزءاً من استراتيجية الدولة الإسرائيلية التي تروّج للمشروع الاستعماري وتحميه.
كان البناء الخطابي أكثر إثارة للاشمئزاز في التغطية الإعلامية لمجلّة «لو بوان» الفرنسية في 15 أيار/ مايو، حيث تبنّت مصطلحات منمّقة للغاية للحديث عن «الضربات الجوية على غزة»، قبل التذكير بأن البلدات الإسرائيلية «محصّنة خوفاً من أعمال شغب أخرى بين اليهود والأفراد العرب، والاشتباكات التي تصاعدت في الضفة الغربية يوم الجمعة». كذلك، يركّز المقال على «الاشتباكات» بين حركة «حماس» وإسرائيل، والتي خلّفت بالفعل «أكثر من 100 قتيل في غزة، وتسعة على الجانب الإسرائيلي، ولا تظهر أيّ بوادر للتراجع». يختصر هذا العرض جميع عمليات التضليل الإعلامي. تناسُق الوضع بين غزة التي تتعرّض لـ»الضربات»، و»البلدات الإسرائيلية المحصّنة»، يحدّه نوع من العبثية. وفيما يتعمّد العرض إخفاء ميزان القوى والتقليل من أهمّية الاعتداءات الإسرائيلية، يتحوّل «الصراع» إلى اشتباكات بين «حماس» وإسرائيل. في نهاية المطاف، يُنتزع السرد المُنتَج من السياق، ويجري إبعاده عن التسييس حتى لا يُذكر أبداً أن «حماس» تُجسّد، من خلال العمل المسلّح، إرادة مقاومة الفلسطينيين ككلّ، والتي يتمّ التعبير عنها من خلال الانتفاضة الشعبية. كذلك، تلجأ «فرانس تي في إنفو»، في عددها الصادر في 15 أيار/ مايو، إلى الإجراءات ذاتها بإثارة «ضربة للجيش الإسرائيلي» ضدّ «مبنى كان يضمّ مكاتب القناة». يأتي هذا العمل في إطار الصراع بين «الدولة العبرية وحماس».
من جهتها، ركّزت صحيفة الـ»إكسبرس»، الصادرة في 16 أيار/ مايو، على «التوتّر الذي لا يهدأ»، مع تسلسل زمني للأحداث يبتعد من تفسير الأسباب الجذرية للوضع الحالي. تُرافق عناصر الرواية الخطاب الإسرائيلي، إذ تتحدّث عن «انتقام» بـ»ضربات قاتلة» من «رشقات صواريخ أطلقتها حماس على إسرائيل». المقاربة منهجية، وهي تتجلّى عبر إضفاء الشرعية على النظام الاستعماري، مع تجاهل الأسباب التي تدفع الفلسطينيين إلى الانتفاض والمقاومة. خلف التفسيرات غير التاريخية التي تقلّل من أهمية أفعال إسرائيل، وممارسة التوازن غير اللائق، يتمّ دائماً نقل وجهة النظر الإسرائيلية.
معاملة وسائل الإعلام في فرنسا تتماشى مع الرواية الإسرائيلية للتاريخ


يبقى التوضيح الأكثر كاريكاتورية للتضليل، المقابلة التي أجرتها قناة «فرانس 24» بشأن موضوع «الصراع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني: ما هي الأهداف العسكرية للجيش الإسرائيلي؟». يوضح الخبير الذي تمّت مقابلته في 14 أيار/ مايو، أن هدف الإسرائيليين هو «تدمير قدرة الحركة على إرسال صواريخ قصفت البلاد»، متعجّباً من عدم تمكّن أجهزة الاستخبارات القوية من توقّع هذه الأعمال. يجري تصوير القصف الإسرائيلي على غزة، والذي أدّى إلى مذابح السكان، على أنه «عملية هادفة للغاية، ضدّ جميع الأنفاق التي تسمح لحماس بالتحرّك».
تَظهر الاستثناءات الملحوظة والوحيدة في صحيفتَي «لو موند» و»لا ليبراسيون». في مجموعة المقالات التي تخضع للأخطاء نفسها، تحاول بعض التحليلات النادرة إعادة صياغة الأحداث واستعادة البعد البنيوي والسياسي للمشكلة. ولكن بكلّ الأحوال، يتّضح من هذه المراجعة الصحافية، أن معاملة وسائل الإعلام في فرنسا تتماشى مع الرواية الإسرائيلية للتاريخ. فَلِشرْح التحيّز الإعلامي، تعتبر التحليلات التقليدية أن المشكلة لا تكمن في التحيّز الأيديولوجي. ويُعتقد أن ذلك يعود إلى قيود إنتاج المعلومات، التي تفضّل التبسيط المفرط والمعالجة السطحية المرتبطة بنقص المعرفة بالملفات. ولكن في عام 2009، تحدّى دينيس سيفرت في كتابه «حرب وسائل الإعلام الإسرائيلية الجديدة»، هذه الأطروحة، من خلال التذكير بوجود استراتيجية دعاية إعلامية مدبّرة من قِبَل إسرائيل والدوائر الموالية لها، والتي تعمل بسهولة أكبر في سياقات أيديولوجية معيّنة. يوضح المؤلّف أن الإسلاموفوبيا، التي لا تزال محلّ اهتمام كبير في فرنسا، تعزّز الشعور بالانتماء إلى الغرب، الذي تعدّ إسرائيل جزءاً لا يتجزّأ منه.
وفي عام 2017، في كتاب بعنوان «القصة الخاطئة: فلسطين وإسرائيل والإعلام»، يحلّل غريغ شوباك، الذي يدرّس الدراسات الإعلامية في «جامعة غويلف» في كندا، الوظيفة السياسية للمؤسّسات الإعلامية. ويعتقد بأن وسائل الإعلام الغربية السائدة بشكل عام، مملوكة لجزء من الطبقة الحاكمة الغربية. لذا، فهي تنتج روايات تقود الجمهور نحو مواقف مواتية لمصالح هذه الطبقة الحاكمة. وهكذا، يتمّ حشد تلك الوسائل الإعلامية في إطار نظام إمبريالي ورأسمالي عالمي يدور حول الهيمنة الأميركية، التي تُعتبر إسرائيل حلقة وصل مهمّة فيها. لذلك، لن يكون الصحافي سوى حلقة ظاهرية، ولكنها غير مهمّة في نظام الهيمنة العالمية. وعلى رغم أن للرأي العام دوراً يقوم به في ظلّ الدعم الغربي متعدّد الأبعاد لإسرائيل، إلّا أن هذا الدور سيتعثّر في نهاية المطاف بسبب هيكل وسائل الإعلام الغربية، والأداء الذي ينزع الشرعية عن وجهة النظر المعادية للصهيونية التي تعادل «معاداة السامية». في المحصّلة، يكمن الحلّ في اللجوء إلى شبكات التواصل الاجتماعي، أو إنشاء وسائل إعلام مستقلّة لا تزال تفتقر إلى الموارد التنظيمية والمالية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا