من أهم ما يميّز المواجهة التي تخوضها فصائل المقاومة في قطاع غزة ضد الاعتداءات الإسرائيلية أنها اتّسمت بسلسلة من المفاجآت تؤسّس لمعادلات جديدة سيكون لها أثرها العميق في نظرة المؤسستين السياسية والأمنية في كيان العدو إلى غزة، وإلى قواعد الاشتباك، كما ستحضر في خلفية كل عملية تقدير وتخطيط لقادة العدو إزاء القطاع والداخل الفلسطيني، وربما أيضاً إزاء خارج فلسطين. نقطة الانطلاق في هذا المسار أن ما يُسجل من بطولات على أرض فلسطين أسقط التقديرات التي كانت تكررها أجهزة الاستخبارات حول حالة ردع تعيشها المقاومة، وأنها أبعد ما تكون من موقع المبادرة أو الرد الفعال والمؤلم للعمق الإسرائيلي، إما لحسابات تقيّد إرادة القرار نتيجة الوضع الصحي والاقتصادي، وإما لمحدودية القدرة الفلسطينية جراء تطور منظومات الاعتراض الإسرائيلية والقدرة على الإحباط.بدأ مسلسل المفاجآت مع دخول «حماس» وبقية فصائل المقاومة على خط القدس مباشرة عندما وجّهت تحذيراً إلى سلطات الاحتلال بالتراجع عن إجراءاتها التهويدية والقمعية بحق المقدسيين. شكَّل ذلك مفاجأة أولى لم يتمكنوا من استيعاب رسائلها، فالحدث كان تأسيسياً وغير مسبوق، إذ يؤسس لمعادلة جديدة في الداخل الفلسطيني تخشى تل أبيب من مآلاتها وتداعياتها على مجمل المشهد الفلسطيني. كما استطاعت المقاومة بهذا الموقف أن تُعيد وصل ما جزّأه «أوسلو» وربط ما فكَّكه. مع ذلك، لم يكن العقل العسكري والاستخباري الإسرائيلي ناضجاً كي يدرك أن المفاجأة الثانية الصادمة بانتظارهم، فلم يطلبوا من المستوطنين المحتشدين في القدس المغادرة، رغم تحذير «كتائب القسام»، بل يبدو أنهم كانوا يرجحون أن الحد الأقصى هو إطلاق بضعة صواريخ على مستوطنات «غلاف غزة». لكن الذي جرى أنه في الصلية الأولى تم استهداف محيط القدس المحتلة، وأدى ذلك إلى الهلع في صفوف المستوطنين الذين أخذوا يفرّون أمام الكاميرات.
المفاجأة التالية تمثلت في صليات الصواريخ الكبيرة والمتزامنة التي استطاعت تجاوز منظومة الاعتراض الصاروخي، وأيضاً الدقة في الإصابة من الصليات الأولى، وهو ما عَكَس تحسن التصويب والتوجيه بفعل التطور التكنولوجي الذي استجدّ لدى المقاومة. ويحضر في هذا الإطار بوضوح دور إيران وعمليات نقل الأسلحة والخبرات داخل غزة، وأيضاً التطوير الذاتي، كما أشارت صحيفة «يديعوت أحرُونوت». في هذا السياق، يكشف حجم الصليات الصاروخية المتزامنة حقيقة أن حجم المخزون الصاروخي أكبر بكثير مما كان يقدره الإسرائيلي، كما أن التكتيكات التي تعتمدها المقاومة أظهرت فشلاً إسرائيلياً استخبارياً خطيراً كون ذلك يشكل أساساً لأي توصية بخيارات عملياتية، وكذلك في تقدير القدرات المعادية لإسرائيل على جبهتها الجنوبية. هكذا، بدلاً من أن يؤدي استمرار الاعتداءات الإسرائيلية إلى تحسين صورة الجيش واستعادة الهيبة، عمّقت الردود الصاروخية أزمة القيادة في تل أبيب، وشكلت تحدياً لم تستطع تجاوزه خوفاً من أن تنتهي المواجهة في الوقت الذي تختزن فيه الذاكرة والوعي صور استهداف القدس والصليات التي دكت عسقلان متجاوزة منظومات «القبة الحديدية»، لتنتقل إلى مرحلة استهداف الأبراج العالية في القطاع على أمل أن يساهم ذلك في ردع المقاومة.
هنا أتت المفاجأة المدوّية التالية عبر استهداف تل أبيب المحتلة وما حوله، عبر «كتائب القسام» و«سرايا القدس»، بعشرات الصواريخ التي تجاوزت أيضاً منظومات الاعتراض واستطاعت أن تحقق إصابات مباشرة، الأمر الذي عزَّز الانطباع الإسرائيلي حول مستوى الدقة المستجد، وخاصة أنه كلما طال المدى، صار هامش الخطأ في الإصابة أكبر، لكن ما جرى أن الصواريخ التي أصابت عسقلان القريبة نسبياً من القطاع أصابت أيضاً تل أبيب، وأدى ذلك إلى مشهد جديد كلياً بالنسبة إلى إسرائيل أدركت فيه أنها تورطت في هذه المرحلة في مستنقع لم يخطر على بال قادتها.
من أولى النتائج المباشرة لهذه المواجهة اضطرار جيش العدو إلى تأجيل المناورة الكبرى «مركبات النار» 24 ساعة في البداية، ثم لأسبوع، ومع أن التزامن بين المواجهة العسكرية مع غزة، والمناورة الكبرى، كان ينبغي لقيادة العدو التعامل معه كفرصة تؤكد بها جهوزيتها واستعداداتها، فإنها لم تجرؤ على اتخاذ قرار بهذا الحجم، رغم أن المعركة العسكرية هي على جبهة واحدة فقط وهي التي كان يُفترض في تقديرات جيش العدو أنها الحلقة الأضعف. وبذلك تم قبل أن تبدأ المناورة إحباط أهم رسائلها وهي محاولة الترويج لمقولة أن إسرائيل على كامل استعداداتها وجهوزيتها لخوض حرب متعددة الجبهات والأبعاد.
كان القصور الاستخباري منشأً لفشل القيادتَين السياسية والعسكرية


هذا المسلسل من المحطات الميدانية جسَّد حقيقة أن إسرائيل تلقّت سلسلة مفاجآت استراتيجية وتكتيكية أظهرت قصور أجهزة التقدير السياسي والاستخباري في فهم واقع يتداخل معه في الجغرافيا والديموغرافيا والأساس أنه يتمتع إزاءه بتفوق استخباري. كما يمكن التقدير أن منشأ الفشل المتكرر الذي واجهه العدو ميدانياً واستراتيجياً ينبع من القصور الاستخباري. والقدر المتيقن أن ذلك سيساهم في إعادة إنتاج مفاهيم جديدة في وعي مؤسسات القرار السياسي والأمني، بل يتوقع أن نشهد في ضوئه وتدريجياً الإقرار بمعادلة جديدة ستحكم قواعد الصراع والمواجهة في فلسطين. كذلك، كشفت هذه المفاجآت حدود قوة إسرائيل وحدود مفاعيلها في مواجهة شعب اختار ألا يخضع وألا يستسلم وأن ينتهج خيار المقاومة. أيضاً تبدَّدت رهانات العدو على إمكانية تطويع غزة بما يضمن لإسرائيل التفرغ لمواجهة بقية التحديات. كما لم يعد في إمكانهم الركون والرهان على مفاعيل سياسة التطبيع في إحباط الفلسطينيين ومحاصرتهم عربياً.
من جهة أخرى، يدرك الإسرائيلي منذ الآن أنه سيكون لهذه المواجهة ظلالها على بيئته الإقليمية، وتحديداً عندما انكشفت محدودية مفاعيل قدراته في مواجهة غزة، فكيف ستكون حاله في مواجهة حزب الله الذي يتمتع بمزايا تسليحية وموضوعية مختلفة كثيراً. وإن تم توسيع الدائرة، فكيف ستكون حاله لو تدحرجت أي مواجهة مع حزب الله إلى حرب إقليمية! الحقيقة التي لم يعد الإسرائيلي قادراً على تداركها أنه بات أمام خيارين: وقف الاعتداء وفق معطيات الميدان الحالية وبذلك تنكشف هزيمته وفشله الاستراتيجي والردعي، أو أن يواصل المكابرة ويراهن على أن ما لم يتحقق بالقوة يمكن تحقيقه بمزيد من القوة، وفي هذه الحالة، سيجد نفسه أمام سيناريو ميداني بديل يُعمق هزيمته ويؤجل إعلانها رسمياً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا