يتيح لنا هذا المفهوم الديالكتيكي لنص جوزف سماحة توسيع هامش «المناورة» قليلاً، وأخذ قضية اعتقال ميشال كيلو ومن ثم إطلاقه إلى أماكن غير مطروقة سابقاً، وغير خاضعة لسطوة الأيديولوجيتين البعثية والكولونيالية. فالحقبة التي أعقبت اعتقال ميشال ورفاقه قد «تميزت» بوصفها حقبة الخضوع لسرديتين اثنتين لا ثالث لهما: سردية النظام البعثي التي تعتبر كل اجتهاد في قضية الاجتماع السوري «مروقاً» و«خروجاً عن الطاعة». وسردية مناوئة للبعث (المعارضة السورية ومنظرو 14 آذار) التي كثيراً ما افتقدت إلى التماسك المنطقي، وإلى القدرة على مجابهة سردية النظام بغير مفرداتها السلطوية العقيمة والفارغة. فبتنا إزاء هاتين الروايتين أمام استعصاء حقيقي لا يمكن الخروج منه إلا باجتراح «طريق ثالث» (لا يمت بصلة إلى طريق طوني بلير طبعاً). وقد وفّر علينا الراحل جوزف سماحة عناء البحث والتدقيق، وسبقنا كعادته دائماً إلى هذا الحل (الطريق) الثالث. وأول ما كان يمكن لهذا «الحل» فعله (فيما لو سمح له بذلك) تجنيبنا في سوريا ولبنان كثيراً من المرارات المتبادلة. وهي مرارات تجرّعناها «سوياً» على مدى أربع سنوات حافلة بالتوظيف السياسي الرخيص والمبتذل. فمرارة الاعتقال السياسي لهؤلاء المناضلين (معتقلو «إعلان دمشق») ضُيّعت تماماً في بحر من الحزازات والكيديات السياسية. والإجماع الذي كان يفترض بقضية عادلة كهذه أن تناله قد تبدد تماماً بمجرد ربطها ــــ أي قضية الاعتقال ــــ بعجلة اغتيال رفيق الحريري وإخراج الجيش السوري من لبنان. وهذا الخلط كان مطلوباً من جانب المشروع الكولونيالي الآفل لتسويق صورة إعلامية معينة، تظهر فيها قضية الاعتقال السياسي في سوريا بوصفها مكوناً أساسياً في المشهد اللبنانوي المقيت الذي أعقب اندلاع «ثورة الأرز».وقد تكون استعادة بعض ما قاله جوزف سماحة في هذا الشأن ضرورية لتوكيد ما ذهبنا إليه أولاً، ولتظهير حجم «الانحراف» الذي أصاب تياراً عريضاً من القوميين واليساريين والديموقراطيين السوريين ثانياً. وهو «انحراف» بدأ بعد استقطاب هذا التيار من جانب الجناح اللبنانوي اليميني «المعادي» لسوريا البلد والناس، لا «سوريا النظام»، وتوريطه في السجالات اللبنانية التي أعقبت اغتيال رفيق الحريري، إذ يقول جوزف في هذا الخصوص: «لقد جرى استخدام ذرائعي وانتهازي في لبنان للمعارضة السورية وبصورة خاصة للطيف اليساري والقومي والديموقراطي منها... لا بل وصل الأمر أحياناً إلى حد استخدامها في السجالات الداخلية اللبنانية لتغليب طرح على طرح، وبالضبط لتغليب توجه لبنانوي يكنّ عداءً لمن يسميه «السوري» ويستدرك، أحياناً، فيتحدث عن «النظام السوري» مدركاً أن الضرر قد وقع».
القضية إذاً بحسب سماحة قد تجاوزت كثيراً كونها قضية اعتقال تعسفي لمعارضين سوريين، ودخلت في طور آخر تماماً. طور بات فيه التوظيف السياسي سيد الأحكام، فهؤلاء المعارضون لن تكتمل معارضتهم إلا إذا أصبحت جزءاً عضوياً من «سرديتنا» (سردية «ثوار الأرز») للمرحلة المقبلة، وبغير هذا «التكوين العضوي» ستبقى معارضتهم لهيمنة النظام السوري ناقصة وفاقدة للشرعية! وقد كتب لهذا الاشتراط أن يعيش مدة أربع سنوات وأن يهيمن على خطاب أجنحة أساسية في المعارضة الوطنية السورية. إلى أن تداعى المشروع الكولونيالي في المنطقة وبدأت بيادقه في لبنان وسوريا تعاني من أزمة الانكشاف وفقدان الشرعية. حينها فقط، ظهر التململ في صفوف المعارضة السورية وبدأت أجنحة أساسية فيها (في «إعلان دمشق» تحديداً) بطرح الأسئلة عن جدوى الخطاب الذي هيمن في الحقبة السابقة، وأدى إلى هذا الانكشاف الخطير أمام النظام وآلته الدعائية الفظة. وإن كنا لا نعرف تماماً بعد موقع ميشال كيلو من هذه النقاشات المحتدمة، إلا أن مواقفه في الفترة التي سبقت اعتقاله تتيح لنا ترجيح «اصطفافه» وراء الجناح العقلاني في المعارضة. جناح يربط بين مقارعة الاستبداد الداخلي والهيمنة الكولونيالية، ولا يقدم إحداهما على الأخرى تحت أي ظرف كان. فهذه المفاضلة غير المحمودة من شأنها إذا ما استوت، أن تقودنا إلى مصير مماثل لمصير العراق بعد إسقاط «البعث». وهذا مصير لا يحتمل دحضه باجتهادات مماثلة «لاجتهادات» المعارضات العراقية الكولونيالية إبان الغزو.
هي مرارات تجرّعناها «سوياً» على مدى أربع سنوات حافلة بالتوظيف السياسي الرخيص والمبتذل


صحيح أنّ النسيج المجتمعي العراقي يختلف بعض الشيء عن نظيره السوري، إلا أن التنوع العرقي والطائفي الذي ينطوي عليه هذا الأخير كفيل بإثارة القلق، وبأخذ محاولات تفجيره على محمل الجد. ولا يكفي أن تكون هذه التناقضات ممسوكة فوقياً (تحت شعار العلمنة) حتى يطمئن المرء ويدفع بهواجسه المظلمة بعيداً. ذلك أن النفاذ عبر المجتمعات المستهدفة ليس بالضرورة أن يكون نفاذاً طائفياً أو عرقياً، بل قد يرتدي أحياناً طابعاً «علمانياً» يقبض على تناقضات «العلمانية» السلطوية ويحاربها بأدواتها.
والحال أن هذه المعطيات لا تخفى على أحد، وخصوصاً على معتقلي الرأي في سوريا وعلى رأسهم ميشال كيلو. وليس أدلّ على ذلك من كتاباته التي كان ينظّر عبرها لإصلاح متدرج يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الاجتماع السوري، واحتياجه الشديد إلى بلورة هوية وطنية جامعة. هوية تصهر المكوّنات الفئوية والطائفية والعرقية لهذا الاجتماع، وتعيد تشكيلها على نحو أكثر نجاعة وأكثر قدرة على مواجهة استحقاقات الداخل والخارج على حد سواء.
بهذا المعنى فقط، يمكن فهم المعادلة الديالكتيكية التي وضعها جوزف سماحة وربط عبرها بين قوة سوريا ومنعتها وحرية ميشال كيلو. فلا قوة لهذا البلد ما دام محروماً من المساهمة الفذة لبعض أفراده الذين يفوقون سجانيهم حرصاً على سيادة سوريا وإبقائها بمنأى عن العصف الكولونيالي.
فالسيادة لا تكون سيادة إلا إذا كانت شرعيتها مزدوجة، أي إن «شرعيتها» في مواجهة الداخل يجب ألا تقل عن «شرعيتها» في مواجهة الخارج. ذلك أن العلاقة بين الاثنين (الداخل والخارج) هي علاقة تأثر وتأثير متبادل. وديناميتها متأتية تحديداً من هذا الحراك المتواصل بين الداخل والخارج. وبدون هذا الحراك نكون قد دخلنا منطقة جمود حقيقية. جمود كفيل بأن ينزع عن هذه العلاقة طابعها الديالكتيكي ويدخلها في أزمة شرعية متواصلة. وهذا على أي حال مأزق كل الأنظمة العربية الموروثة من حقبة ما بعد الثورة في مصر. فبعد الدخول في نفق التسوية وإسقاط شعارات المواجهة مع إسرائيل وأميركا، بدأت أزمة الشرعية بالتفاقم وتسيّد المشهد الإقليمي. وحال «سوريا» في هذا كحال غيرها من الأنظمة العربية الاستبدادية، وإن كان رفعها شعار «الممانعة» ودعمها لحركات المقاومة ما زالا «يحفظان لها» موقعاً «متقدماً» على باقي الديكتاتوريات العربية و«يجنبانها» (أقله حتى الآن) مأزق شرعية المواجهة مع الخارج. وفي هذه الأثناء تبقى أزمة الشرعية الداخلية على حالها، ولا يكفي خروج ميشال كيلو من سجنه للقول بأن سوريا قد تعافت تماماً من مأزقها، إذ لا تزال عجلة «الإصلاح» (كلمة التغيير قد تكون أكثر جدوى) مشلولة إلى حد كبير، وتحريكها مرهون بتحرير طاقاتنا الوطنية من البيروقراطية السلطوية المهيمنة التي تكاد «تودي» بهذا البلد. والجديد في هذه الهيمنة طابعها الهجين والمركّب. طابع يؤالف على نحو غريب بين إرث «التثوير» البيروقراطي والنزعة النيوليبرالية المفرطة. وهي نزعة سقطت في قلب النظام الرأسمالي. غير أن سقوطها هذا لم يزحزح خبراء الكومبرادور المالي في سوريا ولبنان والخليج ومصر عن «رأيهم» قيد أنملة! لذا فإن المعركة اليوم هي معركة إسقاط هذا النهج، بعدما ثُبّت موقع البلد في مواجهة الهيمنتين الأميركية والإسرائيلية (والخيار هنا مجتمعي لا سلطوي)، وميشال كيلو مدعو قبل غيره لخوض هذه المعركة، أقلّه كي تستعيد سوريا منعتها (اقتصادياً بالدرجة الأولى) وتغدو أكثر قوة وعافية. فبهذه الاستعادة نكون قد خطونا أولى الخطوات في الاتجاه الصحيح وجعلنا من «نبوءة» جوزف سماحة أمراً واقعاً.
* كاتب سوري

** نُشر هذا المقال في «الأخبار»
بتاريخ الثاني من حزيران/ يونيو 2009

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا