عُرف سري نسيبة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، بتنظيره للتطبيع مع الاحتلال والتعامُل معه على أنه أمر واقع لا يمكن التخلُّص منه، وهو ما دفع طلاب جامعة بيرزيت في الضفة الغربية ــــ من ضمنهم حينها القائد الأسير مروان البرغوثي ــــ إلى ضربه وطرده من الجامعة واتّهامه بالتنظير لأفكار مسمومة ضدّ القضية الفلسطينية. إلّا أن هذه الحادثة تكرّرت مرّة أخرى في عام 2005، عندما طَرده طلاب جامعة النجاح في نابلس، ومنعوه من دخول الحرم الجامعي وإلقاء محاضرات فيه.الأفكار الخطيرة التي حملها نسيبة ازدهرت إثر توقيع «اتفاقية أوسلو» عام 1994، بعدما عيّنه الرئيس الراحل، ياسر عرفات، رئيساً لجامعة القدس المفتوحة، التي استغلّها للتنظير لعملية السلام مع الاحتلال، وأقام فيها عدداً من الفعّاليات التطبيعية. إلّا أن أخطر ما وصل إليه نسيبة هو وثيقته الشهيرة التي أَطلق عليه اسم «نسيبة ــــ أيالون»، والتي وَقّعها مع عامي أيالون، رئيس جهاز «الشاباك» الإسرائيلي، صيف 2002، في ذروة العدوان الإسرائيلي ضدّ المقاومة في الضفة الغربية (السور الواقي)، وأقرّت القدس عاصمةً لدولتين ومبدأ تبعية الأحياء فيها حسب الأغلبية السكانية. وبحسب «مؤسسة القدس الدولية»، فإن هذه الوثيقة «واحدة من مبادرات كثيرة اتّخذها الاحتلال منصّة للتقدّم والقفز إلى المزيد من التهويد والاستيطان، كونها ضمِنت قبولاً فلسطينياً بما كان قائماً ومضت إلى ما بعده». وتشير المؤسسة إلى أن نسيبة واحد من مؤسِّسي نهج أوسلو، الذي وضع القدس في ذيل الاهتمامات.
ووجدت دولة الإمارات في نسيبة، خلال السنوات الأخيرة، شخصية مقدسية يمكنها أن تُنظِّر لعلاقات أبو ظبي التطبيعية مع دولة الاحتلال، إلى جانب القيادي المفصول من حركة «فتح»، محمد دحلان. ولذا، بادر الإماراتيون إلى دعم نسيبة، قبل عامين من توقيع «اتفاقيات أبراهام»، بالأموال، لإنشاء ما يُسمّى «مجلس القدس للتطوير والتنمية الاقتصادية»، ومنحوه 12 مليون دولار مُقدَّمة من «صندوق أبو ظبي للتنمية»، وهي أموال أُنفقت على مدى السنتين الماضيتين لتضْمن تبعية المؤسّسات الأهلية المقدسية للمُموّل الإماراتي، الذي عمل في الخفاء على تسريب العقارات والأملاك الفلسطينية في مدينة القدس إلى دولة الاحتلال.
وفور اتفاق الفصائل الفلسطينية على إجراء الانتخابات العامة مطلع العام الجاري، أعلن نسيبة نيّته تشكيل قائمة باسم «القدس أولاً»، إلّا أنه عاد وشكّل قائمة موحّدة مع دحلان، المستشار الأمني لوليّ عهد أبو ظبي محمد بن زايد، في ما يبدو أنه يستهدف الدفْع بالشخصيات التابعة للإمارات إلى موقع متقدّم على الساحة السياسية الفلسطينية. واتّهمت «مؤسّسة القدس الدولية»، نسيبة، بأنه يسعى إلى تحكيم الإماراتيين بالمرجعية المقدسية، والسماح لهم بجعْل القدس ميدان إسداء خدمات تطبيع للاحتلال. ولفتت إلى «محاولة أصحاب تلك المبادرة الزجّ باسم آل الحسيني لتوظيف رصيدهم النضالي، في محاولة استغلال رخيصة لرصيد هذه العائلة»، محذّرةً المقدسيين من التعامُل مع المجلس الذي أسّسه نسيبة أو مع القائمة التي يكون فيها.
دعم الإماراتيون نسيبة بالأموال لإنشاء ما يُسمّى «مجلس القدس للتطوير والتنمية الاقتصادية»


وينحدر نسيبة من عائلة مقدسية تحمل الجنسية الأردنية، وتملك مفاتيح كنيسة القيامة في القدس، وللكثير من أبنائها إرث مشرّف في دعم القضية الفلسطينية. إلّا أن الخطّ السياسي لنسيبة، ولعدد من أقربائه، يبدو مختلفاً تماماً. إذ إن والده، أنور نسيبة، كان وزيراً فترة الحكم الأردني للضفة الغربية وكان أوّل المتواصلين مع سلطات الاحتلال بعد النكسة، وعمّه محمد زكي نسيبة يُعتبر اليوم أحد رجال النظام الأردني في القدس، فيما يعمل شقيقه زكي نسيبة مستشاراً لمحمد بن زايد، وابنة شقيقه لانا تعمل حالياً مندوبة الإمارات في الأمم المتحدة. ومع أن سري يُعدّ أحد المنظّرين، إلى جانب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لعملية السلام، وقد وصل إلى مراكز قيادية في الحركة داخل الأراضي المحتلة، وعمل أثناء فترة المفاوضات الأولى (مدريد وواشنطن) كرئيس للطواقم الفنّية وعضو للجنة القيادية، حيث تمّ وضع أوّل مخطّط كامل لإقامة سلطة وطنية فلسطينية، إلا أن الخلافات بينه وبين عرفات ظهرت فور ذهاب الأخير نحو تبنّي خيار الانتفاضة ضدّ الاحتلال.
استمرّت محاولات نسيبة في الثمانينيات للتعرُّف على إمكانية تطبيق حلّ الدولتين. وفي هذا السياق، اشترك وزملاء له (فيصل الحسيني وصلاح الزحيكة) في مبادرة مع أعضاء من حزب «الليكود»، لوضع أسس لتسوية قائمة على هذا الحلّ، لكن المبادرة ما لبثت أن انتهت بانسحاب «الليكود»، واعتقال فيصل والاعتداء عليه - بعد أشهر - من قِبَل بعض الطلبة في الجامعة. ومع ذلك، تواصلت مساعي سري لإيجاد تصميم مقبول لـ»الدولتين»، ومنها مشاركته باحثاً من جامعة تل أبيب في كتاب عن الموضوع (No Trumpets, No Drums) يُعتبر الأول من نوعه، وكان الهدف منه تجسيد الفكرة من خلال توضيح بعض ملامحها التفصيلية. كما شارك، عدّة مرّات، شخصيات إسرائيلية في صياغة بيانات سياسية تدعو إلى السلام، كان آخرها مبادرته مع عامي أيالون، والتي حاولا من خلالها استنهاض تأييد شعبي لحلّ الدولتين.
أثارت تصريحاته حول اللاجئين (في سياق حلّ الدولتين) صخباً وغضباً شديدين، مع أنه كان يفصح علانية، وبصراحة بالغة، عن أثر حلّ الدولتين على قضية اللاجئين، وذلك «احتراماً» منه لضرورة مصارحتهم، وتحرّياً لنفْي فكرة أن يكون في نيّة القيادة الفلسطينية إغراق إسرائيل ديموغرافياً باللاجئين بعد أن تنال ما تريد من قيام دولة مستقلّة (وهي الفكرة التي يبثّها القادة الإسرائيليون إلى جمهورهم لثنيهم عن تأييد حلّ الدولتين). أمّا في السنوات الأخيرة، وبعدما بدأت فكرة هذا الحلّ بالتلاشي عملياً، عاد سري نسيبة للحديث ثانية عن فكرته الأولى المتمثّلة في الدولة الواحدة، عادّاً حق العودة حقاً فردياً، والتنازُل عنه مشروطاً بقبول إسرائيل بـ»الدولتين»، وبأن تكون القدس عاصمة للدولة الفلسطينية.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا