لطالما كانت المملكة العربية السعودية، بالنسبة إلى العالم الخارجي، بلد السخاء، ومملكة أُنعم عليها بثروة نفطية هائلة. بلدٌ يعيش فيه آلاف الأمراء حياة باذخة، وتلجأ إليه أكبر المصارف والدول التي تنازع في خضمّ احتياجاتها المالية. بيد أنّه خلف تلك الأكاذيب والقشور تكمن حقيقة أخرى: إنّ هذه البلاد تغرق أكثر فأكثر في الديون.
ففي العام 2015، حين أجبرها انهيار أسعار النفط على الاستدانة لموازنة حساباتها، بلغت قيمة استدانة المملكة، آنذاك، 200 مليار دولار أميركي، إمّا عبر المصارف مباشرة أو عبر أسواق السندات العالمية.

بمعنى آخر، تنفق السعودية أموالاً تفوق قدرتها. وبغضّ النظر عن التخفيضات الكبيرة في المساعدات الحكومية، لم تعد مبيعات النفط تكفي لكي توازن البلاد ميزانيتها. ومن المتوقع أن تزداد هذه المشكلة سوءاً في السنوات المقبلة، حيث تشرع البلاد في القيام بعملية إصلاح كبيرة، وذات تكاليف باهظة، لاقتصادها المعتمد على النفط.

وخلال الأيام الماضية، أخذت السعودية قرضاً مصرفياً آخر، بقيمة 15 مليار دولار، كتسهيلات مالية لصندوق الاستثمارات العامة، الذي أوكلت إليه مهمة الإشراف على «رؤية السعودية للعام 2030» الإصلاحية. وتتضمن الرؤية سلسلة من الخطط الضخمة ستكلف نحو 4 تريليونات دولار، على مدة عقد من الزمن، بحسب تقديرات شركة «ماكينزي». وتمّ تحصيل الأموال من مجموعة مصارف قوية تضمّ 17 مصرفاً.

يثير اقتراض صندوق ثروة سيادي المال الكثير من الاستغراب، ولا سيما إذا كان يُزعم أنّ فيه ما لا يقلّ عن 400 مليار دولار أميركي. غير أنّ صندوق الاستثمارات العامة يواجه المشكلة التالية: هو لا يمتلك، في الوقت الحالي، سيولة كافية، أو مدخولاً كافياً عبر استثماراته، لتأدية المهمة الموكلة إليه. يؤكد الاقتصادي في «مصرف أميركا» جان ميشال صليبا، أنّ «خطط الاستثمارات، في هذه المرحلة، ليست مموّلة بالكامل». ويضيف: «يجب، بالتالي، تأخيرها أو تنفيذها بشكل تدريجي، أو تخصيص المزيد من رأس المال لها».

الاحتياطيات الأجنبية
حوّلت الحكومة السعودية، منذ سنة، 40 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية إلى الصندوق. إلا أنّ الهدف من هذه الأموال كان انتهاز فرصة قد لا تتكرّر، لشراء أسهم في السوق الموازية، بعد مبيعات الأسهم القياسية التي شهدتها الأسواق، في آذار الماضي، والتي حفزتها جائحة «كورونا». وعلى إثره، حقق الصندوق أرباحاً جيدة عبر شراء حصص من الأسهم في «ديزني» و«بوينغ» و«شيل» وغيرها، والتي قامت ببيعها في ما بعد.

وقد أعلن محافظ صندوق الاستثمارات العامة، ياسر الرميان، أنّ مبالغ كهذه لن تُقدّم للصندوق مرة أخرى إلى حين أن تقوم الحكومة بتجديد احتياطياتها، وهو أمر مستبعد، لكون الحكومة تنفق جميع عائدات النفط على احتياجاتها اليومية. من جهة أخرى، يُرجّح أن تصبح القروض الشبيهة بالقرض الأخير الذي أخذه الصندوق من المصرف مصدر الأموال الأكبر له.

وأصبح لدى الصندوق حالياً قرضان مستحقّان. فقد أخذ الأوّل، عام 2018، على شكل تسهيلات بقيمة 11 مليار دولار، لمدة 5 سنوات، فيما تزداد التوقعات حول لجوء الصندوق إلى سوق السندات، ما سيجعله مضطراً إلى رفع غطاء السرية عن أمواله. ويضيف صليبا أنّه «في حالة أخذ قروض من المصارف، يتعلّق الأمر أكثر بالعلاقة مع المصارف وتقديم ضمانات لها، لذا لا يكون من الضروري فضح الأوراق في العلن»، لافتاً إلى أنّه «في حال تفكير الصندوق في الانخراط في سوق السندات، سيكون عليه، حتماً، الكشف عن جميع حساباته».
ويؤكد فهد السيف، أحد الموظفين الجدد في الصندوق، هذه النقطة. وقد انضمّ إلى الصندوق في كانون الثاني، كرئيس الإدارة العامة لتمويل الشركات. كذلك، أنشأ السيف مكتب إدارة الديون السيادية في المملكة، ممهّداً طريق النجاح لبرنامج السندات فيها.

كان من المفترض أن يجمع الصندوق أموالاً طائلة، بقيمة 100 مليار دولار، بسبب إطلاق سوق الأوراق المالية من قبل عملاق النفط السعودي، «أرامكو». وحين حصل تأخير في هذه العملية، اضطرّ الصندوق إلى أخذ القرض بقيمة 11 مليار لاجتياز المرحلة الصعبة. وفي نهاية المطاف، جمعت الأسهم المدرجة للصندوق، فقط، 29 مليار دولار.

وفي محاولة لتعويض هذا النقص، قرّر الصندوق، عام 2018، بيع الحصة التي يمتلكها في شركة المواد الكيميائية العملاقة، «سابك»، لشركة «أرامكو»، مقابل 69 مليار دولار. وما زالت «سابك» بانتظار تلقّي الأموال. فشركة «أرامكو» بحاجة إلى الحفاظ على أرباحها لمساعدة الحكومة في موازنة حساباتها، وهي بالتالي لن تسدّد مستحقاتها لشركة «سابك»، بشكل كامل، حتى عام 2028.

نقلة نوعية
تتطلب صفقة السندات نقلة نوعية. وحتى الآن، لم يقدّم الصندوق أي تفصيل للأصول الموجودة تحت إدارته، والبالغة قيمتها 400 مليار دولار. وجلّ ما تمّ الإبلاغ عنه يقلّ عن 96 مليار دولار من الأسهم، وذلك في إطار متطلبات الإبلاغ الإجبارية، في شركة الاتصالات السعودية والبنك التجاري الوطني وشركتي «أوبر» و«كرنفال».

كذلك، استثمر الصندوق بقيمة 45 مليار دولار في «صندوق رؤية سوفت بنك» الذي تكبّد خسارة بقيمة 18 مليار دولار، العام الفائت. كما أعلن عن علاقات مشتركة مع «بلاكستون» وروسيا وفرنسا. إلا أنّه لا تفاصيل كثيرة عن الموضوع بعد. ومن المتوقع أن يتم استثمار ما تبقى من الـ400 مليار دولار في شركات سعودية مملوكة من القطاع الخاص.

ويلفت أحد المصرفيين ممّن هم على علاقة بالقرض الأخير، أنّ «المعلومات التي تُقدّم للمصارف قليلة»، مشيراً إلى أنّ «الصندوق هو سيادي، وكأي مؤسسة سيادية، سيكون من الصعب التعامل معه. فيجب على المؤسسات أن تبقى حذرة بشأن ما تكشفه للمصارف، ولا سيما في السعودية، حيث الكثير من المعطيات يجب أن تبقى سرّية».

غير أنّ غضّ النظر من جهة المصارف، التي تأمل أن تُفتح أمامها مجالات أوسع في السعودية في حال نجحت في استرضاء الصندوق، لا يعني أنّ مستثمري السندات لن يكونوا أكثر تطلباً. فإلى جانب غياب المعلومات الكافية، تدور المخاوف حول الحيطة الواجبة في الصندوق وطريقة إنفاقه للأموال.

وخير دليل عمّا نتحدث عنه هو الرهانات على الأسهم، والتي قام بها الصندوق آذار الماضي. ففي حين أنّ التجارة انتهت بتحقيق بعض الأرباح، إلا أنّ مثل هذه الضريبة القصيرة الأجل ترتبط عادة بصناديق التحوط، أكثر من صناديق الثروة السيادية. كما ارتبط اسم الصندوق أيضاً بعدد من الصفقات المفاجئة الأخرى، بما في ذلك محاولة فاشلة لشراء نادي كرة القدم الإنكليزي «نيوكاسل يونايتد».

ويقول المحلل الرفيع المستوى الذي يغطي شؤون المنطقة لصالح شركة «مودي»، ألكسندر بيريسي: «الهدف هو استخدام هذه الأموال في استثمارات طويلة الأمد لتحفيز أجندة الحكومة القائمة على التنويع». ويتوقع أن يستهدف الصندوق الأموال الخاصة، ليتشارك في المشاريع.

ويضيف أنّ «مراحل التنفيذ للعديد من هذه المشاريع هي متفاوتة، مع جداول زمنية مختلفة متعلقة بتطويرها وتمويلها»، لافتاً إلى أنه «في البداية، سيكون هناك بعض الأموال الأولية، أما باقي المبالغ، فإما ستستكمل خلال المشروع أو عبر تمويل من مستثمرين في القطاع الخاص.»

أضف إلى ذلك أنّ طموح «خطة رؤية العام 2030» يثير الكثير من الاستغراب. فقد أوكلت إلى الصندوق مهمة خلق 1.8 مليون فرصة عمل خلال السنوات الأربع المقبلة، وإنشاء عشرات الشركات الجديدة، من ضمنها شركات مصنعة للأسلحة وشركة سيارات أجرة وشركة منافسة لـ«أمازون»، وتمويل مشاريع «غيغا»، كمشروع «نيوم» مثلاً، المدينة المستقبلية على ساحل البحر الأحمر.

احتمال الفشل
ممّا لا شكّ فيه أنّ احتمال الفشل هائل. ففي حين قد يشعر حاملو السندات بالطمأنينة بسبب فرضية حصولهم على ضمانات من الحكومة، يبقى السؤال مطروحاً حول ما قد يحصل مثلاً في حال تغيّرت القيادة في المملكة بشكل مفاجئ.

وليس إطلاق رؤية السعودية للعام 2030، في أعقاب الربيع العربي، محض صدفة. إلا أنّ المحللين يعتقدون أنّ في قلب هذه الرؤية يكمن جوهر براغماتية القادة السعوديين بعد إدراكهم أنّ النفط لن يكون دائماً كافياً لسكان يزداد عددهم بسرعة ويبحثون عن وظائف جيدة.

يؤكد بيريسي أنّ «الفكرة لا تكمن في أنّ المملكة متخوّفة من اندلاع ربيع عربي جديد، بقدر ما هو إدراك أنّ أسعار النفط لن تلامس الـ110 والـ120 دولاراً مرة جديدة، وأنّ على الحكومة والاقتصاد أن يجدا طرقاً بديلة لدعم الظروف المعيشية للشعب».

وبعد مراكمة 200 مليار دولار من الديون، في بضع سنوات فقط، ومع الزيادة التي ستشهدها هذه الديون لتمويل «رؤية 2030»، تحتاج الحكومة إلى خطة عمل. ففي حال فشلت، ستكون الفاتورة ضخمة جداً، وستواجه الحكومة حلقة من ردود الفعل الخطيرة.

ويضيف بيريسي: «سيزداد الضغط على الحكومة، في مرحلة ما، لتأمين وظائف في القطاع العام. وستنتهي هذه الوظائف على أوراق موازنة الحكومة، على شكل ديون أعلى. ولن يكون إيجاد فرص عمل مكلفة من هذا القبيل مستداماً من الناحية المالية».
(هذا ولم يستجب الصندوق لطلب الإدلاء بتعليق).


المصدر:
غاريث غور وساندرين برادلي، «انترناشونال فاينانسينغ ريفيو» (IFR-International Financing Review)