ستتميّز نسخ كتاب «الملك الابن: الإصلاح والقمع في السعودية» (مطبوعات جامعة أكسفورد 2020) للباحثة مضاوي الرشيد، عن نظرائها من أغلب كتب الأكاديمية الغربية عن المملكة، والتي أثقلت رفوف المكتبات. فبعيداً من دوافع التسلية الأكاديمية ومحاولات فك الألغاز الاستشراقية المتخيّلة، يشكّل الكتاب سرداً مفتاحياً لمجمل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية للمملكة من الداخل («المملكة من الداخل» هو عنوان مؤلف لروبرت ليسي، والذي لعله يشكّل النظير الغربي الضحل لكتاب «الملك الابن»، ومن هنا تبرز أهمية المبادرة إلى تأميم الإنتاج المعرفي حول شعوبنا، وهو بالتحديد ما قامت به المؤلفة). ومن جهة أخرى، يسهم الكتاب في توثيق حكاية صعود وسُعار وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وتفجيره للتناقضات الداخلية (والخارجية) لمملكة أجداده بشكل أوصلها إلى حالة غير مسبوقة من الاضطراب.
لعبت جريمة مقتل جمال خاشقجي دوراً محورياً في توجيه دفة أسطر الكتاب، حيث تبيّن الكاتبة أهمية إحالة أسباب هجرة شخص موالٍ ويعيش بامتياز، وخادم مطيع للعرش ومدافع متحمس عن الملكية، كما تصف خاشقجي، إلى وجوب فهم أعمق للتغييرات التي قام بها بن سلمان.
تبدأ الرشيد مؤلّفها بمقدّمة عنونتها بـ«المعرفة في زمن النفط»، لتشير إلى دور المملكة نفطياً في توفير السيولة المادية للدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية معوّضة خسارتها لمستعمراتها. وتهدف الكاتبة من الإشارة إلى الرابط المالي التاريخي مع المركز الغربي، خصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة، لتسليط الضوء على ملاحظة مهمّة متعلّقة بيومنا الحاضر. حيث ارتبطت «الإصلاحات الترفيهية» للعهد السعودي الجديد مع رواج لتكرّر ذكر سياسة الرغيف والسيرك الرومانية، وهو أمر لا تختلف معه الباحثة، وإن كانت تشير في نهاية الكتاب إلى سياسات الضرائب والخصخصة التي قوّضت الأبوية الريعية للدولة. بيد أنها تشير إلى أن صعود الأمير الشاب وشرعيته ترافقت مع تمدّد «سياسة الرغيف» إلى خارج الحدود، لتذكر مثلاً مشاهد ابن سلمان وترامب في البيت الأبيض وعمليات شراء الأسلحة أو رد رؤساء الوزراء الإنكليز المتعاقبين على أي انتقاد لعلاقتهم بالسعودية بأنهم بحاجة إلى التجارة معها.
هذه العولمة لسياسة الرغيف أسهمت في الصعود الصاروخي لمحمد بن سلمان، إلا أن عملية اغتيال خاشقجي في تركيا كانت إشارة الى أن التمدد العابر للحدود لم يكن حكراً على الأموال السعودية فقط، بل إن القمع السعودي أصبح معولماً أيضاً كما تشير الرشيد.

وقبل الخوض في تفاصيل هذين التمددين، المالي والقمعي، خصّصت الرشيد الفصل الأوّل من كتابها لإعطاء لمحة تاريخية عن تاريخ المملكة، وذلك لإضفاء الامتداد التاريخي للسياسات السعودية الحالية وتقلباتها أو حتى استمراريتها؛ فالقمع السعودي لم يكن يوماً حبيس الحدود. تذكّر الكاتبة هنا، وهي التي قضت إحدى أهم مراحلها العمرية في العاصمة اللبنانية بيروت وعاصرت الاجتياح الإسرائيلي، بعملية اختطاف المناضل العروبي ناصر السعيد، ولتذكر في ما بعد الظروف المحيطة بعملية اغتيال الشاعر طلال الرشيد في الجزائر. ومن جهة أخرى، أسهمت مقدّمتها في تبيان الجذر الوهابي التاريخي للدولة، ولتبيّن مفارقة أن «إصلاحات» محمد بن سلمان ما هي إلا انقلاب على ما أسّس له جدّه الملك عبد العزيز.

الحواريّون والتبريريّون
تبيّن الرشيد أن لكل من أمراء آل سعود الرئيسيّين شبكة علاقات مبنية على «الشرهات»، أي الامتيازات المادية، فيما تعبّر عنه بالكالت/الطائفة (Cult). إلا أنها هنا لم تكن في صدد معاينة شبكات المصالح الداخلية المرتبطة بالأمير الصاعد، بل إن مقاربتها اتجهت نحو ظاهرة جديدة في ما سمّته عولمة الكالت/الطائفة (The Globalaztion of the cult). فسياسة توزيع الريوع النفطية بشكل عابر للحدود في سياق عملية بروباغاندا رسمية موجهة لـ«الإصلاحات» التي استند إليها محمد بن سلمان كوّنت شبكة مصالح مادية (من مبالغ مادية مباشرة وتأشيرات دخول ولقاءات خاصة مع الأمير) من المراسلين والشخصيات الغربية من حواريّين للأمير ومبرّرين له وبشكل عابر للعواصم وبالتحديد بين أعوام 2015 و2018 وأثناء ما سمّته «نشوة» الطبقة الرأسمالية الغربية بالفرص الاستثمارية، واستقبالهم لابن سلمان كمالك شركة لا دولة.
لم يكن استخدام لفظ كالت/طائفة هنا اعتباطياً، فعلى الرغم من الحمولة الدينية للفظ، إلا أن ما تهدف إليه المؤلفة على ما يبدو هو تبيان طبيعة العلاقة بين الشخصيات الغربية والأمير، حيث ينتفي استقلالهم (Agency) وتمثيلهم لذواتهم الشخصية، فيفوّضون أقلامهم وذواتهم وبشكل يشبه العبادة لمصلحة «زعيم الطائفة» أي الأمير السعودي الشاب. وهذا ما نجح الكتاب في توثيقه، ضمن مجموعة مواقف وتصريحات سابقة للعديد من الصحف والصحافيين الأميركيين البارزين من ديفيد أغناطيوس في «واشنطن بوست» إلى توماس فريدمان في «نيويورك تايمز».

وسّعت الدكتورة رصدها لطبيعة علاقة من سمّتهم بـ«حواريي الأمير»، لترصد طبيعة تبريراتهم الاستشراقية عن «كسل الشعب»، وأنه بحاجة إلى «مستبد إصلاحي» أو طبيعة اختزالهم مفهومهم لـ«الحداثة» وتعامل الغربيين مع الشعب في السعودية كحيوانات استهلاكية ترنو إلى حفلات غنائية وصالات السينما واستثمار أجنبي. فكما تقول الرشيد، إنه بالنسبة إلى المراسلين الغربيين، فإن الحداثة في السعودية تعني تحويلها إلى دولة ليبرالية استبدادية مع زعيم أوحد على رأسها، مستلهمين نماذج استبدادين ليبراليين كأتاتورك تركيا وشاه إيران، وعليه يتم اختزال مفهوم الحداثة عبر استثناء أي بعد يتصل بالحرّيات السياسية.
ثم لتذكّر القراء بمواقف وتصريحات فريدمان «ولد (محمد بن سلمان) ليكون قائداً»، أو «إن الربيع العربي قد وصل إلى السعودية» (في رأيي التذكير بهذا التصريح في غاية الأهمّية والدقة، فما هو ربيع الشعوب بالنسبة إلى الطبقات الحاكمة الغربية ليس سوى تحرير للاقتصاد وخصخصة لموارد الأمة)، ولتذكرنا أيضاً بسعادة ومديح أغناطيوس بمشروع خصخصة «أرامكو». إضافة إلى ذلك، تشير المؤلفة إلى عملية تأنيث لهذه الكالت/الطائفة لتلاحظ عملية زرع واستقطاب العديد من النساء البيض الغربيات ليعملن كواجهة دعائية لـ«حداثة» و«تقدّميّة» الرؤية الأميرية.
يوثّق الكتاب أيضاً الانقلاب الذي حصل للمراسلين الغربيين بعد عملية اغتيال خاشقجي والتحوّل الآلي من مبرّرين إلى نقّاد. فبعد سنين من غض الطرف عن عمليات اعتقال العديد من الناشطين والناشطات وجرائم حرب اليمن (التهميش الإعلامي لمأساة اليمن دليل آخر على تواطؤ الدول الغربية مع الحرب)، وتصوير الأمير بالمتنوّر، بل حتى تحويل عمليات الإسراف والبذخ الاستهلاكي للأمير، كشراء يخت وأحد القصور في فرنسا، إلى وقائع تدعو للاحتفال... حصل تحوّل متدرج للتغطية الغربية للأمير.

رجل القصر المبرِّر
يتتبع الكتاب تاريخ الراحل جمال خاشقجي على مختلف مراحله، لتستذكر الكاتبة مواقفها الشخصية معه منذ بداية الألفية كأضداد في العديد من المحافل والمقابلات، حيث كان خاشقجي مدافعاً مستميتاً عن السلطة السعودية، وإن كان، وبشكل تبريري، يستذكر أن هنالك «أشياء يجب تغييرها»، وكيف أنه كان معروفاً بـ«رجل القصر»، حتى لخطيبته خديجة جنكيز.
تنتقد الدكتورة الاحتفالية الغربية بالرجل كداعية للديموقراطية وحرية التعبير، مذكّرة بأنه كان غائباً خلال عقد من عمليات الدعوة إلى الإصلاح في السعودية في ما سُمّي «سياسة العرائض» للملك عبد الله، بل كان حينها مبرّراً للسلطة. وإضافة إلى صمته عن التدمير الأميركي لأفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بينما كان معارضاً للقتل السوفياتي للأبرياء في أفغانستان على حدّ تعبير الكاتبة. ثم لتسرد مقتطفات من أبرز مؤلفات الرجل: كتاب «احتلال السوق السعودي» الذي يتبنى فيه رؤى وطنية متطرفة ضد العمال الأجانب، داعياً إلى طردهم، ولتنبّه الدكتورة هنا إلى مفارقة أن الرجل ولأصوله التركية طالما عانى كغيره من الحجازيين من العنصرية في كونه «أجنبياً». المؤلف الثاني، نشره قبل جريمة اغتياله بأشهر بعنوان «رؤية مواطن 2030»، الذي تحدّث فيه عن تحسين البنية التحتية والصحة وبناء الملاعب الرياضية من دون التطرّق إلى الديموقراطية، بل واستخلاصه أن السعوديين لا يتطلعون إلى الديموقراطية، مصرّحاً بأنه لا يرنو إلى الديموقراطية في السعودية، ومردّداً الخطاب التبريري التقليدي بأن نظام المملكة في الحكم نظام استثنائي ويجب الحفاظ على «نعمة الأمان». وتضيف الكاتبة أنه أسبغ أبعاداً «ديموقراطية» على رؤية 2030، من خلال آليات المحاسبة والشفافية.

ولعل الكاتبة هنا أحسّت بأن الكتاب لم يتطرّق إلى ما يمكن وصفه بـ«إيجابيات» في تاريخ خاشقجي، ليدفعها ذلك إلى إحالة سبب مقتله لأنه تطلّع إلى تجسير العلاقات بين مختلف التيارات المعارضة في الخارج. إلا أن هذا التقييم يجانب الصواب، حيث إن شخصية الرجل وماضيه كانا يثيران ريبة العديد من التيارات في الخارج (وهو ما يذكره الكتاب أيضاً) وهو شخصياً كان يتجنّب لفظ «معارض» أو من أن يلحق اسمه بشخصيات معروفة براديكاليتها ضد السلطة الملكية أو كانت تنتمي إلى تيارات مناقضة لمواقفه من الصراع في المنطقة ضمن حالة استقطاب حادة.
إن دوافع جريمة اغتيال خاشقجي ترتبط بتاريخه ومعرفته بداخل المنظومة السعودية، والأهم أن الرجل وبعلاقاته شكل إزعاجاً لعملية تمكين كالت/طائفة الأمير التي، وفقاً للكاتبة، كانت قد وصلت إلى مستويات عالية من الحواريين والمبرّرين في العاصمة الأميركية واشنطن حيث كان يقطن خاشقجي.

ديناميكيات الداخل السعودي
تبرز أهمية الكتاب لأي راغب في معرفة السعودية عن كثب في فصوله المتعلقة بتوثيق وتحليل مسار المطالبات السياسية للسعوديين، وصولاً إلى موجة المهاجرين إلى الخارج اليوم. ومن المباح اعتبار النص مفتاحياً، وبالتحديد من ناحية تفصيل التركيبة المجتمعية السعودية بعيداً من النظرة الصماء والاختزال بسردية «المجتمع المحافظ»، ليبيّن التنوّع الداخلي السعودي على جميع الأصعدة، سواء السياسية أم مختلف البنى المجتمعية من قبائل وحضر وقبيليين وخضيريين «ذوي النسل غير القبلي» إضافة إلى الاختلاف الجندري والطائفي والعمالة المهاجرة.

المضمون الآخر هو في المقاربة التاريخية للكاتبة لـ«الهوية السعودية» وتحوّلاتها، مع تبيانها للمركزية النجدية لشبكة علاقات الدولة وتجسيد هويتها الوطنية. فقد قسّم الكتاب مراحل الهوية الوطنية السعودية إلى ثلاث مراحل، والتي كما تنبّه الكاتبة قد تتقاطع زمنياً خلال مختلف الحقب: أوّلاً الوطنية الدينية، التي قامت مع قيام الدولة، ثم الأممية الإسلامية العابرة للحدود خلال استنفارها ضمن الحرب الباردة، ولنصل اليوم إلى القوميّة السعودية. وتنبّه الكاتبة إلى أنه وبينما كان قيام الدول الوطنية العربية كنقيض للاستعمار، فقد كان قيام الدولة السعودية على أساس ديني لم يتكرّر سوى في باكستان ودولة العدو الإسرائيلي. إلا أن النقطة الحذقة التي تنبّه إليها المؤلفة أنه وإن كانت الصورة النمطية للفرد السعودي سابقاً تفترض التديّن والهوية الإسلامية الفاقعة، فالقومية السعودية ذات مكنون طبقي نيوليبرالي؛ فعلى الشاب السعودي والسعودية اليوم أن يكونا مُلمّين بأدبيات ريادة الأعمال والاقتصاد والخدمات السلعية، إلى أن تستطرد بأن هذا المكنون «القومي» لم يحد من استخدام الخطاب الطائفي في التحشيد الحربي في الحرب على اليمن.

عود على بدء: النفط
يختتم الكتاب، كما بدايته، بالحديث عن النفط؛ فجميع الديناميكيات السياسية والاجتماعية السعودية تنتهي ضمن الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهي الريوع النفطية. فمع الاعتراف بالشعبية التي حصلت عليها تغييرات محمد بن سلمان، والتي ستؤخر التصادم مع السلطة على خلفية القمع، إلا أن إجراءات التقشف وفرض الضرائب تنخر في شرعية الدولة؛ شرعية تلاحظ الكاتبة محاولة الأمير نقلها من شكلها التاريخي كأسرة ملكية مرتبطة بشرعية دينية إلى أسرة ملكية مرتبطة بريادة الأعمال والاستثمارات المالية. وتتنبأ باضمحلال الحماسة الشبابية تجاه المشاريع الأسطورية والدعاية العالمية للهوية السعودية والوجه الجديد لدولتهم بشكل سينتج هبّة معارضة وامتعاضاً. فمع استشراف المستقبل، نظراً إلى تأثير وباء «كورونا» وأزمة النفط التي تلوح في الأفق، فإن الأمير، وبسبب تداعيات جريمة خاشقجي، لن يتمكّن من تحقيق ما يتطلّع إليه من مشاريع، وهو ما يشي بأن هنالك جمراً يستعر تحت الرماد.