القاهرة | باتت الأجهزة الأمنيّة تضع يدها على صحيفة «المصري اليوم»، أقدم الصحف المستقلّة، مع إجبار مالِكها، رجل الأعمال صلاح دياب، الذي تعرَّض للتوقيف مرّات عدّة في السنوات الماضية بسبب سياسة الصحيفة، على بيعها. وجرى التمهيد لإعلان الصفقة في أعقاب إقصاء صحافيين معروفين بمعارضتهم النظام وتبنيهم مواقف منتقدة في السابق. الأمر نفسه جرى مع رجل الأعمال حسن راتب، مالك قناة «المحور» التي تُعدّ أقدم قناة خاصة في «المحروسة». وأُجبر راتب، المتّهم بقضايا فساد، على بيع قناته للأجهزة الأمنية، لكنّ إعلان البيع جاء كأنه ضمن صفقة شراء تولّاها القيادي في حزب «مستقبل وطن»، محمد منظور، الذي ظهر في الواجهة، علماً بأن الحزب مدعوم من المخابرات التي سهّلت أخيراً سيطرته على الغالبية البرلمانية، وكذلك الغالبية في مجلس الشيوخ.هذه المرّة، لا تظهر المخابرات العامة في المشهد، وخاصة مع التحضيرات التي سبقت الإعلان، لكن يجري الدفع برجال الأعمال التابعين للدولة من أجل الاستحواذ وإعلان سيطرتهم الجبرية على وسائل الإعلام، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه السيطرة ليست سوى صورة أمام الرأي العام، وذلك على غرار عمليات الاستحواذ الإجباري التي جرت عام 2017 مع تهديد الملّاك بالحبس ومصادرة أموالهم واستثماراتهم في حال الاعتراض على الرغبة الأمنية. بالتوازي، تبدو عملية تقاسم التركة بين المخابرات و«الأمن الوطني» مستمرّة في الإعلام، وخاصة بعد إقصاء «المخابرات الحربية» من المشهد الإعلامي كلياً قبل نحو عامين. لكن إعلام المخابرات يواجه اليوم أزمات عدّة تفاقمت في الأسابيع الماضية، ليس بسبب المشكلات بين القيادات واستقالة عدد منهم، بل نتيجة الأزمة المالية على خلفية ضعف العائد والشروع في أكثر من مشروع في التوقيت نفسه، وهو ما جعل العاملين في إعلام المخابرات لا يتقاضون رواتبهم عن الشهر الماضي حتى الآن.
أيضاً في ما يتردّد عن أسباب الأزمة، وقف التعاون مع السعودية على خلفية الخلافات السياسية بين القاهرة والرياض حالياً، ولا سيما أن المملكة باتت المصدر الرئيسيّ الذي تعتمد عليه المخابرات في مجال الإعلام تمويلياً، علماً بأن علاقات رئيس «هيئة الترفيه» السعودية، تركي آل الشيخ، متوتّرة مع عدد من المسؤولين المصريين، على رغم محاولته إظهار خلاف ذلك في تغريداته وأحاديثه الإعلامية. هذه الأزمة المالية، دفعت إلى قرار بوقف أي تعيينات جديدة حتى إشعار آخر مع الاتفاق على الاستعانة، في حالات الضرورة القصوى، بعمالة مؤقتة من الخارج ودون أيّ التزامات حتى ورود الموافقة الأمنية على توظيفهم، فضلاً عن التنسيق لآلية تضمن تحصيل الضرائب عن جميع العاملين في إعلام المخابرات بعدما كانوا خارج المنظومة الضريبية، في خطوة ستتضمّن استقطاعات من رواتبهم التي لم تَزد هذا العام بسبب الأزمة.
جرى الاستحواذ أخيراً على صحيفة «المصري اليوم» وقناة «المحور»


وقبل أسابيع قليلة، استقال مسؤول بارز وأرسل بريداً إلكترونياً إلى زملائه يتحدّث فيه عن دوره وترقّيه في المؤسسة قبل الاستقالة التي أُجبر عليها بعدما رفض الامتثال لتعليمات شخصيات مجهولة بلا مناصب. الاستقالة التي هزّ صداها العاملين، لم تكن سوى جزء من أزمة أكبر تواجه إدارة المخابرات للإعلام القائمة على تكرار المضمون عبر جميع المحطات، وعدم تقديم أيّ جديد، حتى في ما يتعلّق باستضافة الفنانين الذين باتوا منقسمين ما بين مرضى عنهم ومغضوب عليهم طبقاً لعلاقاتهم بالقائمين على المنظومة الأمنية، علماً بأن تحقيقات موسّعة تجرى في تفاصيل الاستقالة لمراقبة الهدر في الموارد المستمر منذ سنوات. وصحيح أن قائمة الممنوعين من الظهور أكبر بكثير من المسموح لهم بالظهور وهم يكرّرون أحاديث غير دقيقة، لكن تبقى الأزمة الحقيقية مرتبطة بغياب الرؤية أو التعامل مع الأزمات وحتى معالجة أخبار الرئيس نفسه الذي لا يزال يشعر بعدم الرضى على ما يقدَّم في إعلامه الذي بات يستنزف مليارات الجنيهات دون تأثير حقيقي في الشارع. وإلى الآن، تخرج توجيهات الإعلام من مكتب المخابرات مكتوبة وتنشر كما هي بلا تغيير بعدما كانت تقتصر على الخطوط العريضة.
حتى الآن، لم ينجح رجال المخابرات في إدارة الإعلام باحترافية، على رغم وجود مَن يسعون إلى إظهارهم ناجحين أمام الرئيس، أملاً بالحصول على رضاهم وتوفير فرص عمل لهم أو على الأقل اتّقاء شرهم، لكن ملايين الجنيهات التي تُضخ في المشروعات الإعلامية لا تؤتي ثمارها، ما يدفع المنظومة نحو الانهيار وابتعاد الجمهور الحقيقي، وهو ما يظهر في تعليقات هذا الجمهور، وليس اللجان الإلكترونية على الأخبار المنشورة عبر المنصات الاجتماعية. واللافت أن المخابرات تمتلك لجاناً إلكترونية واسعة الانتشار تعمل من القاهرة لإظهار وجود تأثير حقيقي لإعلامها في الشارع. لكن اليوم لم تعد أي قناة من عشرات المحطات التي تديرها، قادرة على النزول والبثّ من الشارع مباشرة، حتى في المشاريع الكبرى التي ينفذها عبد الفتاح السيسي، خوفاً من ظهور مواقف تبرز الغضب على الشاشات التي لا تتحدّث سوى عن إنجازات الرئيس وسعيه إلى تحقيق الرفاهية للمواطنين.
في المجمل، واضحٌ أن تجربة المخابرات في إدارة الإعلام تفتقر إلى ثقة أهل الخبرة الذين أُبعدوا قسراً عن الشاشات وجلسوا في منازلهم أو خرجوا من مصر جبراً بعدما أدركوا أن لا مكان لهم داخل بلدهم. في المقابل، صعد جيل جديد من الإعلاميين لا يجيد سوى تنفيذ الأوامر حتى لو كانت غير صائبة، ليس لإرضاء الجمهور أو حتى لإرضاء الجهة المالكة، بل لمجرد إرضاء الضابط المسؤول الذي يرى نفسه وصيّاً على ما يجب أن يخرج للبثّ.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا