تونس | بعد ثلاث سنوات من الجلسات المتواصلة، صدرت الأحكام النهائية في القضايا الثلاث المتعلقة بشهداء إقليم تونس الكبرى وولايات الساحل والشمال وقضية تالة والقصرين وقضية صفاقس عن محكمة الاستئناف العسكرية في شأن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وعدد كبير من القادة الأمنيين في نظامه. لم تتجاوز الأحكام ثلاث سنوات سجناً، ما يعني أن القادة سيغادرون الزنازين بعد قضاء العقوبة، إذ إن معظمهم معتقل منذ سقوط نظام بن علي في 14 كانون الثاني ٢٠١١ في حين تراوحت الأحكام الأخرى، ما عدا الرئيس بن علي الذي حكم عليه بالمؤبد، بين عدم سماع الدعوى وتأجيل التنفيذ.
ومن بين القادة الأمنيين المشار إليهم وزيرا الداخلية رفيق الحاج قاسم وأحمد فريعة، والمدير العام للأمن الرئاسي علي السرياطي، والعميد السابق في وحدات التدخل جلال بودريقة، والمدير العام السابق للأمن العمومي لطفي الزواري، والمدير العام للأمن الوطني محمد العادل التويري، وآمر الحرس الوطني محمد الأمين العابد، وعدد آخر من كبار القادة الأمنيين.
صدور هذه الأحكام التي استقبلتها عائلات الشهداء والجرحى، الذين يتراوح عددهم بين ٧٠ شهيداً و٥٠٠ جريح، بالكثير من الاحتجاج، يمثل منعرجاً في المسار السياسي الذي تعيشه تونس منذ انهيار النظام السابق؛ فلأول مرة تقرّ المحكمة العسكرية بأن قادة الأمن غير متورطين في القتل، وبالتالي تطرح سؤالاً عن الجهة التي تقف وراء تصفية المتظاهرين، خاصة أن عدداً كبيراً منهم قتل بعد مغادرة بن علي البلاد.
حُكم على
الرئيس المخلوع
بالمؤبّد


فمنذ بداية المحاكمات، نفى المتهمون بالقتل أي مسؤولية لهم عن سقوط الشهداء والجرحى، كما نفوا أي أمر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. وهو ما نفاه أيضاً مدير الأمن العسكري السابق الجنرال شوبير الذي أدلى بتصريحات جعلت الشارع التونسي يشكك مرة أخرى في حقيقة ما تم تسويقه على أنه ثورة.
وكانت عدة تسريبات أكدت أن الذين قصفوا الأبرياء في أكثر من جهة في البلاد كانوا قناصين أجانب تم انتدابهم للقتل، لخلق حالة من الفوضى وإجبار بن علي على مغادرة البلاد، وهو ما تم فعلاً. وبصدور هذه الأحكام تدخل تونس عملياً مرحلة جديدة، إذ إن كل ما حدث بُني على قتل النظام السابق للمتظاهرين. إلا أن المحكمة العسكرية نفت تهمة القتل عن قادة الأمن، وبالتالي فإن كل المسار السياسي يحتاج إلى إعادة النظر.
لهذا السبب، عبّر عدد من الناشطين في الحراك الثوري والاحتجاجي الذي تعرفه تونس منذ ثلاث سنوات عن دهشتهم من هذه الأحكام، واعتبروها أحكاماً مخففة جداً. وأعلنت إحدى محاميات عائلات الشهداء والجرحى، ليلى الحداد، انسحابها من كل القضايا، واتهمت القضاء والطبقة السياسية والأحزاب بخيانة دماء الشهداء.
أما أنصار النظام السابق وبعض المتعاطفين معه ممن يرون أن ما حدث في تونس ليس ثورة بل مؤامرة خططت لها قطر والإدارة الأميركية، فقد رأوا أن القضاء العسكري أنصف المظلومين بعدما أثبتت الاختبارات الفنية والتسجيلات الهاتفية أن هؤلاء أبرياء من تهمة القتل، إذ إن نوع الرصاص الذي استعمل في القتل لا يملكه الجيش ولا الأمن، كذلك فإن تسجيلات قاعة العمليات أثبتت أنه لم يتم إعطاء أي أمر بالقتل.
الأحكام الصادرة مساء السبت تأتي بعدما غادر كل أركان نظام بن علي السجن، إذ تم القبض على عدد كبير من وزرائه ومصادرة أملاكهم بتهم الفساد والإثراء غير المشروع واستعمال المال العام لأغراض شخصية. وقد أثبتت الاختبارات المالية أنهم لم يجنوا أي أرباح خاصة، بل إن ما يملكونه أقل مما تتيحه لهم معاشاتهم، خاصة أن معظمهم من أساتذة الجامعة، مثل عبد الوهاب عبدالله وعبد العزيز بن ضياء.
فهذه الأحكام، رغم طابعها القضائي، لها انعكاسات سياسية كبيرة، إذ إنها تنسف عملياً كل ما ألصق بنظام بن علي، وخاصة في ملف الشهداء والجرحى، وذلك بعدما تمت تبرئة معظم وزرائه من قضايا الفساد. ولعل هذا السبب الذي جعل «الثوريين» يرون أن الثورة تم قتلها في المهد بعد تحالف حركة «النهضة» مع بقايا نظام بن علي واستعمال الرئيس المؤقت منصف المرزوقي كشاهد زور.
وبعيداً عن طبيعة هذه الأحكام أو مدى صدقيتها، فإن الشارع التونسي الذي كان ضد بن علي بنحو شبه كامل في أيام الثورة، يعيش الآن إيقاعاً آخر مختلفاً تماماً بعد ثلاث سنوات من تراجع كل شيء في البلاد باستثناء الاعلام وحرية النشاط السياسي، وهما ملفان لا يعنيان في شيء المواطن البسيط الذي لا يعرف «الفايسبوك»!