أكثر من دلالة حملها انتشار «سرايا السلام» (الجناح العسكري لـ«التيّار الصدري»، بقيادة مقتدى الصدر) في شوارع العاصمة بغداد وبعض المدن الجنوبية الأخرى، قبل أيّام. ثلاثة أطراف - بالدرجة الأولى - على اتصال مباشر بالحدث: الصدر، زعيم «ائتلاف دولة القانون» نوري المالكي، ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
الصدر: أنا الدولة
منذ انطلاق الموجة الأخيرة من الحراك الشعبي (1 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019)، أجاد الصدر استثمار الشارع في ضرب خصومه السياسيين، ومن ثمّ ضرب المتظاهرين أنفسهم، حتى تَخلُو الساحة له. وهو ما يُدرجه أكثر من مصدر سياسي في إطار السعي إلى «ابتلاع الدولة»، باستغلال هوامش محدّدة أوجدها الصراع الأميركيّ (والخليجي) – الإيراني، فضلاً عن يأس طيف واسع من جماهير الأحزاب التقليدية، وفي المقابل قوّة شارعه الحاضر لـ«تلبية نداء القائد». كذلك، استثمر الصدر، منذ تسنّم الكاظمي رئاسة الوزراء في أيّار/ مايو 2020، رغبة الأخير في علاقة «هادئة» معه، من أجل محاصرة المنافسين، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، على مستوى المناصب والدرجات الوظيفية والعقود وغيرها.
منذ أسابيع، أطلق الصدر حملته الانتخابية، داعياً أنصاره إلى تحديث بطاقاتهم. وإذ أعلن - بصراحة - تطلّعه إلى أن يكون رئيس الوزراء المقبل «صدريّاً»، فقد توعّد غرماءه السياسيين، «الفاسدين» على حدّ تعبيره، بالمحاسبة. فسّرت الأحزاب والقوى السياسية مواقف الزعيم الشاب على أنها «دعاية وتهويل»، لكنّها - في الوقت نفسه - أخذت «تحذيراته» على محمل الجدّ، خاصّة أن القانون الانتخابي يصبّ في صالح «التيّار الصدري»، إذ يضمن له حصّة أكبر من التمثيل، أو أقلّه يحفظ له صدارته الحالية (50 نائباً تقريباً).
هذا المشهد، المظلَّل بخطابات «استعادة هيبة الدولة» من مختلف الأحزاب والقوى السياسية، والمحفوف أيضاً بالخشية من تزوير الانتخابات، وجده الصدر فرصةً جديدة ومؤاتية لتوجيه أولى رسائله الميدانية. وفق حسابات الرجل، فإن ما يُسمّيه «التزوير»، الذي يستبطن معنى مخالفة النتائج لحساباته، يعني خسارته لـ«الكتلة الأكبر»، أي الحؤول دون الظفر بمنصب رئيس الوزراء. وهذا ما عبّر عنه المالكي بصراحة، قبل أيّام، عندما قال: «لن نسمح بذلك». توعُّدٌ سرعان ما جاء الردّ عليه بالانتشار المسلّح في الشوارع، والذي أُريد منه إيصال الرسائل التالية:
1- تأكيد الصدر جاهزيّته للنزول إلى «الميدان»، حتى لو كلّف ذلك اقتتالاً داخلياً. صحيح أن الاستعراض كان بدعوى التحسّب لـ«هجمات إرهابية» ضدّ المراقد الدينية، إلا أن حقيقته هي التلويح بأنه «إذا سُرقت الانتخابات منّا، وجاءت النتائج على خلاف رغبتنا، فسنعيد الفرز بطريقتنا».
2- التشديد على أن دعوات «ضبط السلاح» موجَّهة - حصراً - إلى خصومه، بينما هو يظلّ مستعدّاً لحمل السلاح بناءً على مصلحة سياسية يُقدّرها بنفسه.
3- التأكيد أن الخصومة مع المالكي باقية، ولا يمكن لـ«صلحة» بينهما أن تبصر النور، على رغم الوساطات التي حُكي عنها سابقاً. وهو ما يجلّي أحد أبرز أوجه الشرخ داخل «البيت الشيعي»، ومدى عمقه.
4- مجدّداً، يثبت ما جرى أن العملية السياسية في العراق مرهونة بالأمزجة الشخصية والمصالح الحزبية، وهو ما يجرؤ الصدر على التعبير عنه بصراحة، فيما يُحجم الآخرون عن فعل ذلك لحسابات خاصة بهم.
يدور الحديث عن حراك هدفه تنسيق عملية التصويت بين «القانون» و«تحالف الفتح»


المالكي: لا لرئيس «صدريّ»
على الضفة المقابلة، يقف المالكي في مواجهة الصدر، محذّراً من أن تؤول رئاسة الوزراء إلى «صدريّ». يسعى الرجل إلى رصّ صفوف معارضي الصدر من «الشيعة» و«السُنّة» والأكراد، متطلّعاً إلى استعادة القيادة السياسية لحلفاء طهران، في المرحلة المقبلة. يدرك الرجل جيّداً أنه الوحيد القادر على «شدّ عصب» معظم هؤلاء، الذين يخشون مواجهة الصدر (باستثناء الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي). وعليه، لا بدّ من الموقف الحاسم، وهذا ما كان: لا يمكن القبول برئيس «صدري». موقفٌ حمل رسائل متعدّدة لعلّ أهمّها:
1- قادرون على مواجهة الصدر، سياسيّاً، مع حلفائنا.
2- قادرون على تشكيل تحالف انتخابي واسع، للتعاون في مرحلة التصويت أوّلاً، ومرحلة تشكيل «الكتلة الأكبر» ثانياً.
3- لا يمكن التساهل مع الصدر مطلقاً، لأن التساهل ستدفع الدولة ومؤسّساتها ثمنه، في ما يستهدف التذكير بـ«صولة الفرسان» (البصرة 2008).
رسائل المالكي من شأنها أن تشكّل قواعد اشتباك بينه وحلفائه من جهة، وبين الصدر من جهة أخرى، في المرحلة المقبلة. وفي هذا الإطار، يدور الحديث عن حراك هدفه تنسيق عملية التصويت بين «القانون» و«تحالف الفتح» (تكتّل القوى المؤيّدة لـ«الحشد الشعبي»)، بهدف تصدّر نتائج الانتخابات، وبالتالي تشكيل «الكتلة الأكبر»، وتسمية رئيس الوزراء. وذلك يعني، من منظور الصدر، «تزويراً»، وانتقالاً إلى المواجهة.

الكاظمي يدفع الثمن
إزاء تجدّد صراع الصدر - المالكي، يبدو الكاظمي الحلقة الأضعف، وهو ما تجلّى في الحيثيات الآتية:
1- فضّلت «العمليات المشتركة» استيعاب انتشار «الصدريين» على الدخول في مواجهتهم. كان يمكن - مثلاً - أن تُسند إلى «الحشد» مهمّة ضبط الانفلات الذي حصل، ولكن من يضمن عدم تطوُّر المشهد الأمني إلى ما هو أخطر؟
2- كذلك، آثرت «العمليات المشتركة» عدم تكذيب رواية «الصدريين»، خوفاً أيضاً من الدخول في سجالٍ سينعكس سلباً على صورتها.
3- في كلتا الحالتين، يدفع الكاظمي الثمن؛ إن واجه الصدر سيُحمَّل مسؤولية الدم المهدور، وإن سكت سيُحمَّل - أيضاً - مسؤولية انفلات الأمور.
4- ثمّة قناعةٌ لدى رئيس الوزراء وفريقه بأن الوصول إلى موعد إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة - بأقلّ الأضرار الممكنة - هو إنجازٌ بعينه. وعليه، لا بدّ من «التهدئة»، والاستفادة من الدعم الأميركي - الإيراني الممنوح للكاظمي، حتى الساعة.
إزاء ذلك، يقول البعض إن الكاظمي يأمل بـ«ولاية ثانية»، وهو يعمل لأجلها، فيما ينفي مقرّبون منه نيّته ذلك، عدا عن صعوبته أصلاً، وفق ما يعتقد المالكي وحلفاؤه. أمّا الصدر فهو ذو مصلحة - على ما يبدو - في التمديد للكاظمي، ولكن بشروطه.
على أيّ حال، يبدو لافتاً ما أبلغه رئيس السلطة القضائية في إيران، إبراهيم رئيسي، للكاظمي، من دعم مطلق لحكومته في المرحلة الراهنة، في حين يبدو موقف الإدارة الأميركية الجديدة ضبابياً، على رغم دعم بعض الدوائر للرجل. وحتى موعد إجراء الانتخابات، يَظهر كلّ شيء قابلاً للتغيير، بينما الثابت هو أن الاستحقاق في موعده، وأن ثمّة إجماعاً على رفض تسنّم أيّ «صدري» رئاسة الوزراء.