كل شيء جاهز لإعادة انتخاب عبد العزيز بوتفليقة. لم يعكر صفو حملته الانتخابية سوى صحته. خطر الثورات والانتفاضات العربية لم يطرق أبواب الجزائر. كانت ذاكرة الجزائريين مشغولة بصور دماء ومواجهات ما يصفونها بـ«العشرية السوداء». عشر سنوات من الحرب بين السلطة والتنظيمات والجماعات الإسلامية أنهكت البلاد بعد توقف المسار الانتخابي عام 1992. رفض الجزائريون أن تطرق أبوابهم رياح الربيع، لأن الحركات الإسلامية احتلت الصدارة.
ارتاح بوتفليقة. نظر إلى مصر فرأى الإخوان المسلمين ملاحقين من قبل الفريق عبد الفتاح السيسي ورفاقه. ارتاح أكثر لتراجع الحركة الإسلامية النهضوية في الجوار تونس. لم يشأ تقليد الملك المغربي محمد السادس في وضع الحركة الإسلامية الإخوانية تحت جناحه الحكومي. الحركة الإسلامية في الجزائر محكومة بقلق الشارع منها. أفاد بوتفليقة.
لم تعرف الجزائر عبر تاريخها الحديث مفاجآت رئاسية. بقيت المؤسسة العسكرية منذ عهد بومدين تهندس كل شيء. هي التي أطاحت الرئيس الأول للاستقلال أحمد بن بله بعد أقل من 3 سنوات من الحكم. منها انطلق بومدين للرئاسة. منها جاءت فكرة التوافق على تعيين الضابط الشاذلي بن جديد رئيساً حين أُقصي بوتفليقة في خلال حملة إنهاء رجال بومدين بعد رحيل الأخير. كرّت السبحة للرئاسة. الضابط ليمين زروال مكان الشاذلي الذي أخطأ ببعض التنازلات للجبهة الإسلامية للإنقاذ فعوقب بالإطاحة. المناضل الثوري محمد بوضياف مكان علي كافي على رأس المجلس الرئاسي. اغتيل بوضياف في ظروف لا تزال غامضة حتى اليوم على يد الضابط بومعرافي.
لم يشذّ الضابط السابق بوتفليقة عن القاعدة. انتخب رئيساً عام 99 بتأييد من المؤسسة العسكرية. ما ميزه عن الرؤساء الآخرين منذ بومدين، أنه نجح إلى حد بعيد في خلال ولاياته الثلاث السابقة في تشذيب سطوة هذه المؤسسة. أبعد البعض، توافق مع البعض الآخر، ضغط على آخرين، ثم أعاد قولبة أجهزة الاستخبارات. ساعدته في ذلك عوامل عديدة أبرزها: وضع اقتصادي جيد بفضل تحسن أسعار النفط الذي تعتمد الجزائر عليه في دخلها القومي بنسبة تفوق 90 بالمئة. وضع سمح للجزائر بأن تقرض البنك الدولي وليس العكس. ثم خبرة واسعة في كواليس السياسة والعسكر ودهاليزهما، وقدرة على إدارة تنافس دولي على الجزائر لمصلحة الجزائر. وأخيراً ضعف الحركة الإسلامية والأحزاب الأخرى.
وحده علي بن فليس، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير ورئيس الحكومة السابق يتصدر الآن قائمة المنافسين الخمسة الآخرين. لعله يتمتع أيضاً بدعم بعض أجهزة المؤسسة العسكرية.
في الشرعية التاريخية والخبرة، بوتفليقة هو الأعرق بين المرشحين. كان من ضباط ثورة التحرير في بلاده. قاتل على الجبهات الداخلية. وصل نضاله إلى حدود مالي الأفريقية، فاستحق لقب «عبد القادر المالي». كان في طليعة المتصلين برجال الثورة في فرنسا. رافق بومدين الذي لا تزال صورته ناصعة في وجدان شعبه. كان وزيراً للشباب والسياحة، وهو في الخامسة والعشرين من العمر. بعدها بعام واحد صار وزيراً للخارجية عام 63. لعله كان من أبرز وزراء خارجية بلاده والعرب في فترة عربية حرجة.
ما ميز بوتفليقة
أنه نجح إلى حد بعيد في تشذيب سطوة المؤسسة العسكرية


قد يكشف أسراراً
عربية خطيرة لو
كتب مذكراته
قد لا يعرف كثيرون أحد الأسباب الشخصية لعلاقة بوتفليقة بسوريا وسبب دفاعه عنها. فهو من الجيل الذي ترعرع على صورة الزعيم جمال عبد الناصر والوحدة العربية. هو أيضاً من الجيل الذي ناضل سياسياً على المستوى العربي منذ نكسة 1967 ومؤتمر الخرطوم الشهير. هو الذي أسهم دبلوماسيا وسياسياً في معركة عام 1973. في عهد وزارته، انعقدت منظمة الوحدة الأفريقية في بلاده، وكذلك منظمة الـ 77، وقمم دول عدم الانحياز التي نشط فيها بقوة. صار اسم بوتفليقة يلمع في معظم مؤتمرات التحرر الوطني العربي والأفريقي. صار نجماً وهو في أوج شبابه. وضع فلسطين في القلب. صادق الرئيس الشهيد ياسر عرفات. كان رئيساً للدورة التاسعة والعشرين لجمعية الأمم المتحدة عام 1974 حين ناضل لإسماع صوت عرفات من على ذاك المنبر الدولي لإلقاء خطابه الشهير. من على ذاك المنبر أيضاً، شكل التكتل الدولي لإقصاء جنوب أفريقيا بسبب عنصريتها. قلبه نبض كثيراً على دقات قضايا العرب، ولم ينبض لزوجة فبقي عازباً.
بوتفليقة الذي شارف اليوم على الـ 77 عاماً، قد يكشف أسراراً عربية خطيرة لو كتب مذكراته. أليس هو من أسهم بالتوسط بين تنظيمات فلسطينية والغرب في عهد خطف الطائرات. ألم يكن هو نفسه أفضل وأشجع وأهم الوسطاء في قضية خطف وزراء «أوبيك» في فيينا؟
ترتفع بعض الأصوات في الجزائر تقول: «كفى». ترى أن الرجل بقي في السلطة أكثر مما ينبغي وأنه مريض. ارتفعت أصوات أخرى تتحدث عن فساد في السلطة وعن قمع حريات. قد يكون الأمر صحيحاً أو أن فيه بعض مغالاة. لكن لا أحد يستطيع التشكيك في شرعية بوتفليقة ولا بقدرته على اللعب على التوازنات الدولية.
هذا وزير الخارجية الأميركي جون كيري يأتي مُصغياً طائعاً بعدما انفتحت أبواب موسكو واسعة للتعاون العسكري والسياسي. يأتي كيري فيسهم في الظهور العلني لبوتفليقة بعد فترة المرض. عُدّ الأمر رسالة دعم أميركية. كانت رسائل موسكو أقوى عبر الاتفاقيات والأسلحة. باتت الجزائر ثالث مستورد للأسلحة الروسية في العالم. قلقت أوروبا. لا بأس. يعرف بوتفليقة أن اللعبة الدولية في مكان آخر.
بعد العشرية السوداء، قاد بوتفليقة مشروع المصالحة الوطنية والوئام الوطني. نجح في إبعاد شبح الإرهاب. أسهم في إضعاف الحركة الإسلامية من دون أن يلغيها. جذب بعض الجماعات المسلحة للعودة إلى الدولة. لم ينظر إلى سوريا إلا من هذه البوابة. شعر بأن ثمة شيئاً يحصل فيها يشبه ما حصل في بلاده منذ مطلع التسعينيات. وقف ضد محاولات إقصاء سوريا عن الجامعة العربية. عارض الهجمة الخليجية عليها، وهو العارف جداً بالخليج حيث عاش طويلاً في منفاه الإماراتي. ناهض التدخل الدولي. وها هو اليوم يعد في كلمته الرئاسية بتغيير أساليب الحكم وتعزيز الديموقراطية و«مراجعة الدستور في العام المقبل وحماية البلاد من التحرشات الداخلية والخارجية الداهمة».
قد يعيب عليه مواطنوه مساوئ كثيرة في السلطة. هذا حقهم. وحقهم أيضاً أن يطالبوا برئيس آخر، نظراً إلى وضعه الصحي. ربما أساء بعض المحيط إلى صورته. لكن الأكيد أن بوتفليقة هو من طينة رؤساء قلّ نظيرهم الآن في الوطن العربي. الأكيد أيضاً أنه أعاد إلى الجزائر كثيراً من عزتها في الخارج بعد سنين من الوهن. أعاد إلى الجزائريين «النيف»، وهي كلمة محلية تعني الأنف المروفوع اعتزازاً.
هل كان من الأفضل ألا يترشح؟ يبدو أن صراعات الخلافة هي التي دفعته إلى الترشح. هو الوحيد حالياً الذي يتمتع بتأييد كل القوى المؤثرة في النظام من جيش وأمن داخلي ومخابرات. يتمتع أيضاً بدعم القوى المالية والاقتصادية التي نمت بفضل جوّ الاستقرار والحماية من دون الانجرار وراء الليبرالية المتوحشة. كان المثال واضحاً في خلال الأزمة المالية التي عصفت بالعالم عام 1988.
الخميس بوتفليقة رئيساً للجزائر. ولكن بأي نسبة تصويت؟ هذا هو الرهان الوحيد.