لم يكن مستبعداً جداً أن يُختتَم الحوار الفلسطيني، الاثنين والثلاثاء الماضيين، في مقرّ المخابرات العامّة المصرية في القاهرة، بالتوافق على معظم الإجراءات المتعلّقة بالانتخابات الفلسطينية (التشريعية، الرئاسية والمجلس الوطني) المزمع إجراؤها خلال أشهر. ولعلّ التفاؤل المسبق بهذه النتيجة يعود إلى مستوى الرعاية المصرية، فضلاً عن سرعة التعاطي مع الطلب الفلسطيني بفتح معبر رفح، إذ لم تمضِ ساعات على بدء الجلسات حتى أُعلن استئناف عمل هذا المنفذ الوحيد لقطاع غزة إلى «أجل غير مسمّى». أمّا بيان التوافق المُكوّن من خمسة عشر بنداً، والذي تضمّن بعض البنود الغامضة التي قد تعيد الأمور إلى المربّع الأول عند التنفيذ، فإنه وفق ما استخلصته «الأخبار» من كواليس الاجتماعات التي حصلت عليها، كان بيان «الحدّ الأدنى» من التوافق، بل امتلأ طريق الوصول إليه بعقبات قُوبلت بإصرار مصري على ضرورة حلّها أو تأجيل النقاش فيها، انطلاقاً من تشديد وزير المخابرات، عباس كامل، على «إنهاء أيّ خلاف دعماً للقضية الفلسطينية التي تقف على مفترق طرق، وتحتاج إلى أن نكون على قلب رجل واحد».خلال افتتاحه جلسة الحوار، ثمّ تعليقه على كلمات وفود الفصائل، قال كامل إن «مصر على مدى أكثر من سبعين عاماً تُعدّ شريكة معكم»، لافتاً إلى أن «الجميع أمام فرصة تاريخية لن تتكرّر، والتاريخ سيسجّل لكم أو عليكم». وتابع: «الوقت محدود أمامنا، ونحن أمام خيارين: إما أن ننجح، أو ننجح». وفي سبيل الوصول إلى الاتفاق، دعا كامل الوفود إلى أن «تكون اجتماعاتهم مفتوحة وأن يأخذوا وقتهم في بلدهم مصر»، مستدركاً: «لا تفهموني خطأً، لا بدّ من خروجكم من هذا الحوار متفقين»، مستطرداً بصيغة المزاح: «سأطلب من رئيس الوزراء إغلاق جميع المعابر الجوية والبرية والبحرية حتى لا تخرجوا قبل اتفاقكم». وفي شأن الانتخابات، قال الوزير المصري إن بلاده لا تريد أن تتحوّل النتائج إلى «صراع بين الفلسطينيين».
نفى الرجوب والعاروري وجود تفاهمات مخفيّة بين «فتح» و«حماس»


في المقابل، قدّمت الفصائل مطالب مختلفة؛ فهناك من دعا إلى إزالة الالتباس في مرسوم الانتخابات الرئاسية الذي نصّ على انتخاب رئيس دولة فلسطين، إذ إن انتخاب رئيس الدولة يجب أن يكون عبر أبناء الشعب في الداخل والخارج، والمرسوم يجب أن يتعلّق برئيس السلطة. ويبدو أن هذه الملاحظة أُخذت بالاعتبار، إذ وردت «انتخابات رئاسة السلطة» عند الحديث عن الانتخابات في البند الأول من البيان الختامي. كما سجّلت الكلمات شبه إجماع على تحييد المحكمة الدستورية من الإشراف على الانتخابات، وتشكيل محكمة خاصة من 9 قضاة: 4 من الضفة و4 من غزة و1 من القدس، أو 11 قاضياً: 5 من الضفة و5 من غزة و1 من القدس. وثمّة فصائل أعلت سقف مطالبها، واقترحت «نقاش الاستراتيجية الوطنية الحالية والمستقبلية ومنظمة التحرير كإطار جامع للشعب الفلسطيني» على جدول الأعمال، فيما شهدت الجلسة مطالبة لـ«حماس» و«فتح» بإعلانهما تفاصيل التفاهم الثنائي بينهما، وهو أمرٌ نفاه رئيس وفد «فتح»، جبريل الرجوب، ورئيس وفد «حماس»، صالح العاروري، قائلَين إنه لا تفاهمات خارج ما هو معروف، وتحديداً حول قائمة مشتركة متّفق عليها بينهما.
ورفض العاروري ما قيل حول أن «الانتخابات تشرعن الانقسام... نريد أجساماً منتخبة لها شرعية الصندوق، ولا أحد يستطيع فرض نفسه على الشعب، لا بالديموقراطية ولا بقوّة السلاح»، مضيفاً إن «منطلق هذا المسار ليس قائماً على إجراء الانتخابات فقط، بل من موقع مواجهة صفقة القرن، ولذا تواصل الأخ أبو العبد (إسماعيل هنية) مع الأخ أبو مازن (محمود عباس) ومدّا يد التعاون والتنسيق مع حركة فتح والفصائل». وأكد تأييد حركته «إجراء انتخابات للمجلس الوطني لأنّه يمثّل الشعب في الخارج... الأصل هو الانتخابات، ونتوافق على البديل حيثما يتعذّر ذلك». وفي ما يتعلّق بالحقوق والحريات، قال: «نحتاج إلى صيغة قانونيّة يعلنها الأخ أبو مازن... الأخ أبو إبراهيم (يحيى السنوار) قال: إذا سارت فتح خطوة، فنحن سنسير ثلاث خطوات»، مشيراً إلى أن «حماس معنيّة بحضور المراقبين من أيّ دولة عربية أو أجنبية، وفي مقدّمتها مصر»، لافتاً في الوقت نفسه إلى «الحاجة إلى حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات».
ما سلف كان جزءاً من مجريات اليوم الأول للحوار. أمّا اليوم الثاني، فبدأ بجلسة صباحية تحدّث فيها المشرف على الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية، اللواء عمرو نظمي، عن الرغبة في تشكيل لجنة لصياغة البيان الختامي، ولا سيما بعد «ورود نقاط اتفاق في كلمات ومداخلات المشاركين» يمكن عكسها في البيان. لكن جدلاً دار حول مضامين البيان، وبعد ساعة اقترح نظمي تشكيل لجنة من سبعة أشخاص لصياغته، وهذا ما لم يُعجب عدداً من الحاضرين، فقال اللواء: «ليس لدينا مانع من أن يُمثَّل جميع المشاركين بواحد أو اثنين». وفعلاً، أرسلت معظم الوفود شخصين لتمثيلها، وبذلك رُفعت الجلسة الأولى، وذهبت اللجنة لصياغة البيان الذي كانت مسوّدته معدّة سلفاً في مساء اليوم الأول بالتنسيق مع مسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية، اللواء أحمد عبد الخالق، فيما أشرف على لجنة الصياغة اللواء نظمي بحضور طاقم من المخابرات. واستغرق النقاش في لجنة البيان أربع ساعات لم تخْلُ من مشادات وتوتر، فيما مثّل «حماس» في هذه اللجنة خليل الحية وحسام بدران، و«فتح» روحي فتوح وعزام الأحمد.
بعد انتهاء اللجنة من عملها استؤنفت الجلسة، وتلا نظمي البيان، ثم فُتح المجال لنقاش استمرّ ساعة وكان ساخناً وخصوصاً مع محاولات بعض المشاركين إضافة بنود جديدة، الأمر الذي استفزّ وفد «فتح»، إذ حدثت مشادات كادت أن تصل إلى تعارك بالأيدي لولا تدخل عبد الخالق. في نهاية النقاش، حرص نظمي على الأخذ ببعض الملاحظات بما لا يتعارض مع الاتجاه العام. وبعد إجراء تلك التعديلات، تلا البيان بصيغته النهائية، وأبلغ الحاضرين أنه سيخرج ليطلِع كامل عليه، طالباً من الجميع البقاء في القاعة لأن الوزير سيحضر الجلسة الختامية. وبعد أكثر من ساعة، حضر الأخير وبدأت الجلسة بكلمة منه، افتتحها مازحاً: «قبل حضوري إليكم، رفعت حظر السفر عنكم». وبعدما شكر الجميع، أعلن ترحيب مصر باجتماع آخر الشهر المقبل، ذاكراً أن «الرئيس عبد الفتاح السيسي كان على تواصل مستمر لمتابعة مسار هذا الحوار، وهو مسرور بالنتائج التي تم التوصل إليها، ويبلغكم مباركته». وبعدما أنهى كلمته، طلب من رئيسَي وفدَي «حماس» و«فتح» إلقاء كلمتين لم تتعدّيا شكرهما لمصر واستعدادهما لتطبيق الاتفاق.