والنفط يوم أنه ظهر الْهم على الوقفة نصيب... فالعصب أصبح له مقرّ ويضخّ من حبشان بيب(مديح النفط في أحد الأناشيد الوطنية الإماراتية)

عقدة النقص
قبل بضع سنوات، عَنْون الكاتب الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، كتاباً له بـ»لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر»، ويبيّن فيه تحوّل الثقل السياسي العربي من عواصم كدمشق وبغداد والقاهرة، إلى أبو ظبي والرياض وحتّى الدوحة. ويعزو ذلك إلى سبب وحيد، وهو تراكم الأرصدة المالية من ريوع النفط في المدن الخليجية، الأمر الذي أسهم في بروز قادة الخليج الراغبين في قيادة الأمّة العربية. ليس عبد الله الوحيد الذي غرق في هذه اللحظة من التاريخ العربي المعاصر، إذ يتحدّث الإماراتي الآخر - القطري الهوى -، سلطان سعود القاسمي، عن الشارقة بوصفها «أثينا العالم العربي»، وكأن الوطن العربي بلا عمق تاريخي؛ بلا القدس وبغداد ودمشق، وبحاجة إلى استيراد «أثينا» إليه.
عملياً، لا يخلو كلام الشيخ الإماراتي الشابّ من الصواب؛ ففي الأخير، نعيش اليوم حقبة زمنية تقوّضت فيها المراكز التاريخية العربية، بعد احتلال بغداد على أيدي الأميركيين، والإجهاز على القدس على أيدي شتات الأوروبيين الصهاينة، وتحييد القاهرة، وحصار دمشق وصنعاء، وإزاحة طرابلس الغرب، وانكفاء الجزائر. وعليه، أُنتجت فجوة ملأتها دول الخليج الفتيّة، المحميّة من الغرب، مما يشبه العدم بعيد اكتشاف النفط. والمسألة هنا ليست بجمود تاريخي ينطلق من حتمية ارتباط صيرورة التاريخ العربي ببقع جغرافية لا تتبّدل، بل إن المسألة تدور حول فهم هشاشة وخواء الصعود السياسي الخليجي وأثره المدمّر على مصائر العرب.
يتجلّى هذا الخواء على هيئة عقدة نقصٍ تحكم تصرفات وسياسات أمراء وشيوخ الخليج أنفسهم، وعلى الأخصّ شيوخ الإمارات العربية المتحدة. فحتّى التمظهر العمراني لناطحات السحاب ومحاولة التسويق لمدينة دبي كنموذج لمشروع ريادي ناجح، أصدر فيه محمد بن راشد كتاباً عنونه بـ»رؤيتي، التحديات في سبيل التميز» - من هنا، يمكن أن نرى أحد أسباب توجّس ابن راشد من صعود الرؤية السعودية -، لم يسدّا فراغ العمق التاريخي للدولة الإماراتية وهويتها الوطنية وظهورها السحري فجأة على الخارطة. وعليه، ترى انشغال الإماراتيين بهاجس التاريخ والبحث عن اكتشافات أثرية تُشكّل امتداداً تاريخياً لحاضر اليوم، من تغريدات ضاحي خلفان عن اكتشاف آثار قديمة لأسواق بشكل يفسّر النمط الاستهلاكي اليوم، وصولاً إلى الحملات الرسمية للدولة عبر رعايتها لسلسلة وثائقيات ضخمة بعنوان «تاريخ الإمارات»، بشكل يتتبّع قصة تمتدّ جذورها إلى 125 ألف سنة في التاريخ، على حدّ تعبير منتجيه.
تزامن وصول المسبار المموّل إماراتياً إلى مدار المريخ مع وصول المسبار الصيني «تيان-وين 1» إلى مدار الكوكب الأحمر


لجوهر الموضوع هنا بُعدان، كلاهما ينطلق من محاولة إثبات أن «الخليج ليس فقط نفطاً» كما يردّد سامي كليب - وهو بالطبع ليس مجرّد نفط، لكن ليس بالشكل الذي يشير إليه كليب -، وأن «التقدُّم» الإماراتي ليس صنيعة المال النفطي فحسب، بل له جوهر أصيل. ويندرج البعد الأوّل في سياق بناء وتمكين الهوية القُطرية للإمارات وإضفاء الطابع التاريخي عليها بمعزل عن التاريخ العربي المستقى من خارج حدود المشيخة الخليجية. أما الثاني فهو في تغذية نزعة التفوّق والسمو لـ»إسبرطة الجديدة»، كما تشير إليها الصحف الغربية، وبما يمكّنها من لعب دور التمدُّد خارج الحدود بشكل وظيفي للمشاريع الغربية، بل وفي محاولة استنساخ شكل التمدُّد الإمبريالي الغربي. وهنا، تكفي فقط متابعة تغطية القنوات المحلية الإماراتية لقوّاتها في اليمن وتصويرهم بجالبي «الحضارة» إلى فقراء هذا البلد والتفضّل عليهم بالمنح، لتُذكِّر صور الجندي الإماراتي الحديث بعتاده إلى جانب الطفل اليمني الحافي القدمين، بالتغطية الإعلامية للأميركيين لدى غزو العراق.

المثابرة في الاستهلاك
تزامن وصول المسبار المموّل إماراتياً إلى مدار المريخ مع وصول المسبار الصيني «تيان-وين 1» إلى مدار الكوكب الأحمر، ضمن المشروع الفضائي الصيني الذي يرنو إلى الهبوط على سطحه. بطبيعة الحال، لم يحظَ الإنجاز الصيني بالبهرجة الإعلامية ذاتها التي حازها نظيره المموّل إماراتياً، بل إن التغطية الغربية للمسبار الصيني يشوبها التوجّس من نجاح هذا البلد في امتلاك المعرفة الفضائية في خضمّ سباق فضائي محموم بين الأمم. إلّا أن ما يميّز المشروع الصيني هو سرعة التحاقه بالمشاريع الغربية والروسية التي سبقته، وبالخصوص إذا ما أخذنا في الاعتبار حرمان الولايات المتحدة، الصين، من المشاركة في محطة الفضاء الدولية، وتبادل المعلومات التقنية، سعياً منها إلى الحدّ من تطوّر الصين، وهو ما دفع هذه الأخيرة إلى بناء محطة فضائية خاصة بها.
المسألة هنا تتعلّق بموقعك في دائرة الإنتاج الرأسمالي العالمي المهيمَن عليه غربياً، ومحاولة أمم صاعدة أن تمتلك وتنتج المعرفة بشكل عام، وفي إطار حديثنا، المعرفة الصاروخية والفضائية. ومن هنا، يمكن فهم طبيعة تعامل القوى الغربية مع البرامج الفضائية الصينية والهندية (يدعم الغرب البرنامج الهندي نكاية بالصين) والإيرانية والكورية الشمالية، وبين الرعاية الاحتفالية الغربية المساهِمة في إنعاش الصورة الرمزية للتابعين لها. فأنت كإماراتي، لا تهدِّد معادلة تقسيم العالم اليوم واحتكار المعرفة كمصدر رئيس للقوة والسيادة، بل على العكس، أنت تعمل على تثبيت هذه المعادلة وتحاول بناء مجدٍ تسويقي لـ»دولة» وكأنها علامة تجارية، وتعيش رهينة موقعك العالمي كمستهلك مجدّ ومثابر من أطراف المركز الرأسمالي، والمفضّل لدى الرجل الأبيض. ومثابرتك هذه تصبّ في خانة إنعاش تزييف الواقع، وضمان ديمومة اغتراب الجماهير في الجنوب العالمي عن التنمية المعطوبة على مستوى الكوكب.
والأمر ليس حبيس المريخ والفضاء وشراء التذاكر السياحية لإماراتي ليصل إلى الفضاء، فيما يصفّق المستلَبون من الشباب العربي كقطيع من «الزومبي»، بل إن المشروع الفضائي الإماراتي، إن صحّت تسميته هكذا، ما هو إلا انعكاس لمرآة مجمل نموذج «التنمية» في دولة الإمارات، الذي يقوم على استيراد كلّ مِن التقنيّة والعامل الرخيص، ليشغّل الأخير هذه التقنية إن كانت ضمن نطاق المعرفة المسموح بها غربياً، أو أن يشغّلها التقنيون الغربيون إن لم تكن كذلك، كما هي حال المحطة النووية في أبو ظبي.

الهروب إلى الفضاء
يعود بنا كلّ هذا إلى الأصل، وهو برميل النفط؛ فالدولة الخليجية ليست دولة بالمعنى الحديث للدول، أي أمّة وشعب يمثّل نفسه في مؤسسات تقود عملية الإنتاج، وله ثقافة وهوية وتاريخ مشترك (سعودي، قطري، إماراتي، كويتي...)، مهما حاولت النُخب القبليّة الحاكمة محاولة اصطناع، بل شراء كلّ ذلك. هذه الدول عبارة عن شبكة هرميّة لتوزيع ريوع النفط، تتربّع على قمّتها شبكة مصالح طبقية ووشائجية تتحكّم في آلية هذا التوزيع، وإن كان لها أعلام وأناشيد وطنية وعضوية في الأمم المتحدة، وتقود مشاريع فضائية وتستضيف كأس عالم وتروّج لمدن مستقبلية. كلّ هذا ضمن مصلحتها الطبقية الذاتية، وليست مشاريع وطنية تقودها دولة تسعى إلى تنمية مستدامة ومستقلّة تستدعي الوقوف ضدّ الهيمنة الغربية، ويتمكّن عبرها العرب في الخليج من تملّك حصة من تاريخهم ضمن أمّتهم ومجالهم الحيوي وكسر حالة الارتهان والمقامرة التاريخية على النفط عبر المثابرة في العمل والإنتاج. فهذا هو الواقع الذي يحاول شيوخ الخليج الهروب إلى الفضاء خوفاً من مواجهته.