طولكرم | الرابعة فجراً. على حاجز الطيبة في طولكرم. يتكدس آلاف العمال الفلسطينيين أمام بوابة صغيرة. هدفهم العبور إلى الأراضي المحتلة من أجل العمل. لقد ضاقت بهم الضفة المحتلة. لا خيار إلا البحث عن الرزق في إسرائيل. يتنافس هؤلاء على الوصول إلى الحاجز قبل الموعد المطلوب.

يعيشون يومياً ساعات من الإذلال والمخاطرة بانتظار المرور. بعد «الطيبة» عليهم تجاوز مناطق أمنية أخرى. وصول أحدهم باكراً إلى البوابة الأولى لا يعني أنه سيمرّ أولاً، أو أنه محميٌّ من تدافع الآلاف هناك. «كثيرون أصيبوا بكسور وتعرضوا لاختناقات. قد تموت إذا سقطت أرضاً بين الحشد»، هذه شهادة أحد العمال، واسمه ناصر صبحي.
صبحي أب لأربعة أبناء، بدأ العمل في الداخل المحتل قبل أكثر من عشر سنوات، رغم أنه يحمل شهادة دبلوم. يقول: «نصل غالباً الساعة الواحدة والنصف قبل الفجر. في أيام الأحد الأشدّ اكتظاظاً يأتي بعض العمال في العاشرة والنصف ليلاً. نحاول أخذ دور قُرب أول بوابة كي ننهي عذاب هذا المكان بسرعة، ونكون على الجانب الآخر من الحاجز في وقت وجود مشغلّينا».
ويضيف: «هناك وضع الجنود الإسرائيليون ممراً ضيّقاً أشبه بقفص حديديّ يأخذهم في اتجاه واحد. على العمال المرور عبر هذا الممر، فإذا دخله أحدهم لا يمكنه مع شدة التدافع أن يتراجع إلى الخلف أو أن يتوقف عن المسير».
ويتابع صبحي سرد المعاناة: «هناك أكثر من نافذة لفحص التصاريح، لكن الجنود يغلقونها ولا يفتحون إلا اثنتين فقط، بل يتوقف من عليهما عن العمل للدردشة ونحن ننتظر دورنا»، مضيفاً: «لا يحلو للجنود إجراء تدريباتهم إلا في مناطق مجاورة للحاجز كي يخيفونا. إن لم يكن هناك تدريب يبدأ الجنود بالصراخ وإصدار الأوامر لإذلالنا».
ويروي أنه في إحدى المرات أُصيب عشراتٌ من زملائه بالاختناق بعد إلقاء قنابل الغاز عليهم، «ومنذ وقت قريب توفي عامل في الممر بسبب التدافع الذي يسببه الجنود أنفسهم، فعندما نحشر بهذا العدد الضخم في مكان كعنق الزجاجة يصبح الموت نتيجة متوقعة».
وكان عادل يعقوب (59 عاماً) من بلدة بلعا قرب طولكرم قد استشهد في كانون الثاني الماضي على حاجز الطيبة إثر اختناقه بالغاز، تاركاً خلفه زوجته وسبعة أطفال.
ومنذ بداية العام الحالي توفي ثمانية عمال في الأراضي المحتلة نتيجة إهمال شروط الصحة والسلامة المهنية، كما أعلن وزير العمل الفلسطيني في رام الله أحمد مجدلاني.
وقال مجدلاني في تصريح نهاية آذار الماضي: «تزايد إصابات العمل في إسرائيل وحالات الوفاة عائد إلى أن العمال الفلسطينيين يمارسون أعمالاً خطرة، فيما يرفض الإسرائيليون علاجهم في المستشفيات الإسرائيلية وقت الإصابة»، متسائلاً: «لماذا ينقلون إلى الضفة للعلاج وتسوء حالتهم خلال الطريق، رغم أن نسبة من معاشاتهم بدل الرعاية الصحية».

التسلل بدلاً من التصريح

على جانب آخر، يخاطر آلاف الشبان الفلسطينيين بحياتهم في محاولة الوصول إلى إسرائيل بالتسلل والعمل هناك دون تصاريح. الملاحقة هي مصير هؤلاء الشبان، فإما أن يعتقلوا وإما أن يطلق الرصاص الحيّ عليهم في حال رصدهم جنود الاحتلال على الحدود.
الشاب أحمد (اسم مستعار) يرقد في المنزل منذ أكثر من أسبوع بعد تعرض ساقه للكسر خلال محاولته الفرار من الجنود الذين رصدوه مع آخرين حاولوا التسلل من منطقة حدودية. أحمد روى لـ«الأخبار» ما حصل معه، «ركضت بين أشجار الزيتون ثم وجدت جراراً زراعياً. حاولت الصعود إلى العربة التي يجرها والاختباء داخلها، لكنني سقطت وسحقت عجلة الجرار ساقي. لا أستطيع العمل حالياً، لكن لحسن الحظ لم تصبني الرصاصات».
أما عن سبب تسلله، فيقول الشاب العشريني: «التصاريح لا تُعطى إلا للمتزوجين من الفلسطينيين، وفي السابق كان يشترط أن يكون لديه ابن أيضاً»، مضيفاً: «فكرة أن تعمل لدى إسرائيلي مذلة، لكن لا خيار آخر لديّ. أحياناً أعزّي نفسي بأنني أكون في فلسطين داخل مدينة يُحرّم على أهلها وأصحابها الوصول إليها».
إذا تمكّن هؤلاء الشبان من الوصول والعمل، فإن جهد أيام كثيرة قد ينتهي بلا مقابل، لأن المشغلين الإسرائيليين يمتنعون عن دفع أجور الذين دخلوا متسللين، فلا قانون يفيدهم ولا قوة تدافع عنهم.
هنا، الشاب حمزة (اسم مستعار) الذي يحمل شهادة جامعية وبدأ العمل في إسرائيل قبل أكثر من عامين يقول: «لم يدفعوا أجري أكثر من مرة. ببساطة، لا أستطيع فعل شيء».
ويستطرد: «دائماً أحاول التسلل مع مجموعة من الشباب. مرة قرب مدن فلسطينية شمال الضفة، أو حتى جنوبها. أي فرصة نحاول استغلالها، لكن كل فرصة أصعب من سابقتها التي تكون قد اكتشفت طريقها»، مكملاً: «على مدار أكثر من عامين عملت في مهن صعبة كالبناء والزراعة».
ويشرح حمزة أيضاً كيف يضطر ومن معه إلى مغادرة منازلهم في وقت متأخر ليلاً للوصول إلى نقطة الدخول، «عند المرور عبر ثغرة السلك الشائك تأتي سيارة الناقل المتفق معها ويكون عادة من فلسطينيي الداخل. في أقل من دقيقة يتكدس 15 أو 20 شاباً داخل سيارة صغيرة».
ويواصل حديثه: «إذا اكتشف الجنود السيارة يلاحقونها، فنضطر إلى القفز منها والاختباء بين الأشجار. بل قد تباغتنا شرطة الاحتلال في مكان العمل وتعتقلنا. هذا ما حدث معي ذات مرة».
هي رحلة موت، أكان الفلسطيني متسللاً أم عابراً عبر الحاجز، وإن لم يكن نصيبه في إحدى الاثنتين، فإن أقل إصابة عمل في الداخل ستتضاعف حتماً مع غياب العلاج. رغم ذلك، لا يزالون مصرّين على تحصيل الرزق، وإن كان في أرضهم المحتلة.




بصمة إلكترونية لأسباب أمنية

العمل داخل إسرائيل ليس رفاهية يطلبها الفلسطينيون، بل يكون وجودهم محفوفاً بالمخاطر والظروف الأمنية. «لكن ما جبرنا على المرّ إلا الأمرّ منه»، كما يقول مثلهم الشعبي. مع ذلك، لا يسمح لهم بالعمل في إسرائيل إلا بعد حصولهم على تصاريح خاصة تصدرها المصانع أو الشركات الإسرائيلية التي تشغلهم. بمجرّد مرور العامل على الحاجز وترك بصمته على الأجهزة هناك تُبلّغ الجهة المشغلة إلكترونياً بعبوره، وهذا يضمن أن العمال مراقبون ولا يمكنهم أن يتوجهوا إلى أي مكان سوى العمل. أما إذا قررت الشركة المشغلة الاستغناء عن خدمات أيٍ من العمال، فإنها ببساطة تلغي تصريح عمله إلكترونياً، لكنها لا تبلغه بذلك مسبقاً، فيعيش مسلسل الإذلال، ثم يكتشف أنه مُرجع لأن تصريحه ملغيّ.
ليس الإرجاع سبيل الإذلال الوحيد، بل هناك التدقيق في تصاريحهم وبصمات أصابعهم ثم تفتيشهم جسدياً وتفتيش أي حقيبة يحملونها. وبعد رحلة ساعات صعبة على الحاجز لا تنتهي المعاناة. على الجهة الأخرى، أصحاب سيارات النقل الذين يستغلون العمال ويجبرونهم على دفع أجور مواصلات مرتفعة تقلّهم إلى أماكن العمل.