طوال الحرب على اليمن، طُرحت التساؤلات حول فساد الطبقة السياسية المعترَف بها دولياً، ومصدر ثروات مسؤولي ما يُسمّى «الشرعية» من وزراء ومديرين ووكلاء وكبار ضبّاط وقادة عسكريين وزعماء أحزاب وقبائل وقادة أجهزة أمنية ورجال دين وناشطين سياسيين وإعلاميين. إذ بدا مثيراً للشكوك تمكُّن هؤلاء من مراكمة ثروات وبناء مؤسّسات استثمارية وفنادق ومنتجعات سياحية وامتلاك استثمارات تجارية وبنكية وشركات متعدّدة الأهداف في عواصم الخليج وعواصم أخرى خلال مدة قصيرة، علماً بأن معظمهم من محدَثي النعمة الملتحقين بدول الخليج، سواء المشاركة في «التحالف» أو خارجه (قطر وعُمان).تتخادم تلك الشخصيات مع دول «التحالف» (السعودية والإمارات) التي تؤمّن لها الركون إلى الدعة والاستقرار خارج البلاد والاستفادة من ثروات البلد وبناء قصور، مقابل تغطية استمرار الحرب واستعارها، وتوفير المظلة الدولية والمحلية لها. المطّلعون على الوضع اليمني يرون أن وجود الراعيَين (الرياض وأبو ظبي) يزيد فساد مختلف القادة السياسيين القبليين والعسكريين والأمنيين المناهضين لـ«أنصار الله» ممن تدعمهم كلتا الدولتين في شمال اليمن وجنوبه. وأمس قالت وكالة «رويترز» إنها اطلعت على تقرير للأمم المتحدة يكشف أن البنك المركزي في اليمن (مقره الحالي في عدن) خالف قواعد تغيير العملات وتلاعب في سوق العملة وغسل جزءاً كبيراً من الوديعة السعودية بمخطط معقّد لغسل الأموال وأدرّ على تجار مكاسب بلغت قيمتها نحو 423 مليون دولار.
في التقرير، هذا المبلغ هو أموال عامة تم تحويلها بطريقة غير مشروعة إلى مؤسسات خاصة، فيما لم توضح الوثائق التي قدمها «المركزي» السبب في انتهاج مثل تلك الاستراتيجية المدمرة. وقال المراقبون إنهم يرون ذلك عملاً من أعمال غسل الأموال والفساد ارتكبته مؤسسات حكومية، وهي في هذه الحالة البنك المركزي والحكومة بالتواطؤ مع رجال أعمال وشخصيات سياسية في مواقع مهمة، وذلك لمصلحة مجموعة من التجار ورجال الأعمال تتمتع بامتيازات خاصة. كما اتهم التقرير السنوي لفريق خبراء الأمم المتحدة للعقوبات المختص باليمن ما يسمى «الحكومة الشرعية» بغسل الأموال والفساد بما يؤثر سلباً في وصول إمدادات غذائية كافية.
اشترى مسؤولون كبار عقارات وأسسوا شركات في القاهرة وإسطنبول


واقع الحال أن الحرب كما سببت المزيد من الفقر والجوع والموت مثّلت كذلك فرصة للمئات من القيادات السياسية والعسكرية التابعة لما يسمى «الشرعية» التي تتخذ الخارج مكاناً آمناً لاستثماراتها، فاتجهت إلى تأسيس شركات تجارية وصناعية واستثمارية في عدد من الدول العربية والأجنبية، على أن تجارة العقارات هي الأكثر رواجاً، وخصوصاً في مصر والأردن والسودان وتركيا وماليزيا، وصولاً إلى الصين. كما أن الإمارات تحتضن مسؤولي «المجلس الانتقالي الجنوبي»، لكنها تمنعهم من نقل الأموال خارج الإمارات. وعلى أن القاهرة وإسطنبول هما الوجهة المميزة لاستثمار المسؤولين (الأولى هي المركز المفضل لتجارة العقارات)، تقدر الإحصاءات أن اليمنيين اشتروا أكثر من 20 ألف عقار من قصور وفلل وبيوت وشقق.
بحسب البيانات الرسمية لـ«هيئة الإحصاء التركية»، اشترى اليمنيون 231 منزلاً في تركيا عام 2015، و192 في 2016، و390 في 2017، و851 في 2018، و1082 في الأشهر التسعة الأولى من 2019، و3000 عام 2020. البيانات الرسمية التركية لا تتوقف عند شراء البيوت والعقارات، بل تضيف إلى لوائحها المؤسسات التجارية التي شهدت وفق البيانات الرسمية عام 2017 تأسيس 44 شركة برأسمال يمني، و79 في 2018، وفي الأشهر السبعة الأولى من 2019 بلغ عددها 41، ليؤسس اليمنيون 164 شركة في تركيا خلال آخر عامين ونصف عام.
الفساد لا يتوقف على الطبقة السياسية والنخبوية، بل يطاول ما يسمى «الجيش الوطني» المحسوب على ما تسمى الشرعية، ويبلغ تعداده وفق الإحصاءات الرسمية 400 ألف ضابط وجندي. لكن مصادر عسكرية مختلفة تقول إن العدد المذكور مبالغ فيه كثيراً، ويجري تضخيمه على جداول الرواتب العسكرية لجنود غير موجودين، وذلك لمصلحة قادة عسكريين كبار. ولدى هؤلاء الضباط حوافز قوية للمبالغة الصارخة في عدد الجنود الخاضعين لإمرتهم نتيجة المكافأة التي يحصلون عليها من قبض رواتب زائدة، إضافة إلى مكافآت تعود على من يقودون قوات أكبر.
يُعتقد أيضاً أن المسؤولين متواطئون في هذا المخطط، فوزير الدفاع في «الحكومة الشرعية»، محمد علي المقدشي، اعترف عقب إخفاق قواته في مأرب العام الماضي بالفساد المستشري في جيشه، وقال إن الذين يقاتلون على الجبهات لا يتعدّون سوى 30% من أصل الكشوفات الرسمية من الجيش، والباقي أسماء وهمية أو لجنود لا يلتحقون بالجبهات، وفي الحالتين، تتقاضى رواتبهم جهات سياسية وزعماء قبليون. وإلى جانب الرواتب، يتلقى كبار القادة دعماً مادياً من «التحالف» (أسلحة وذخائر ووقود ومركبات ومعدات أخرى) استناداً إلى عدد الجنود الذين يزعمون أنهم تحت سيطرتهم. تضخيم نتائج كشوف مرتّباتهم ليس في مدفوعات الرواتب الإضافية فقط، بل أيضاً الدعم الإضافي مما يمكن بيعه بعد ذلك.
في المقابل، اتهم التقرير الأممي «حكومة الإنقاذ» في صنعاء بتمويل المجهود الحربي من إيرادات الدولة التي تخضع لسلطتها، غير أن «الإنقاذ» لا ترى في ذلك تهمة، بل ترى أن من واجباتها الوطنية والدستورية تخصيص مخصصات وزارة الدفاع من ضمن الموازنة العامة للدولة وهي ضمن وظائفها في السلم والحرب.