بعد ساعاتٍ على تبنّي تنظيم «داعش» جريمة «ساحة الطيران»، وسط العاصمة العراقية بغداد صباح الخميس الماضي، وإعلانه، رسميّاً، العودة إلى ميدان المواجهة، حملت ساعات أول من أمس «غزوةً» لإرهابيّي التنظيم شرقي مدينة تكريت (قاطع العيث)، في محافظة صلاح الدين شمال البلاد. الكمين المنفَّذ بأسلحةٍ خفيفة، أسفر عن استشهاد 11 منتسباً لـ«الحشد الشعبي»، وجرح عددٍ آخر، في وقتٍ أكّد فيه رئيس «هيئة الحشد»، فالح الفياض، أن الأخير «قدّم مجموعة من الشهداء حتى لا يضرب الإرهابيون مدننا مرةً أخرى».«يشي التسارع في وتيرة الأحداث الأمنيّة بأن إرباكاً يلوح في الأفق»، على حدّ توصيف مصدر أمني مطّلع تحدّث إلى «الأخبار». وتفرض قراءة المشهد الإشارة إلى ثلاثة عوامل، بوصفها محرّكات/ دوافع الأحداث الجارية:
1- انسحاب قوات الاحتلال الأميركي؛ في الساعات القليلة الماضية، أكّد وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، أن حكومة بلاده ستطلب من ​الإدارة الأميركية​ الجديدة «مواصلة اجتماعات الحوار الاستراتيجي، وتحديد فريق تفاوضي جديد من جانبها، لبحث الموضوعات الأمنيّة والعسكريّة الخاصّة بوجود ​القوّات الأميركية​ في العراق»، بعد قرار إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، خفض عديد القوات المنتشرة في هذا البلد. وفي هذا السياق، يقول مقرّبون من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إن هذا الأخير، وطوال الأشهر الخمسة الماضية، وكنتيجةٍ لاتصالات مكثّفة مع واشنطن، «استطاع أن يبرم تفاهمات معقولة، أدّت إلى انسحاب أكثر من 3000 جندي أميركي»، في وقتٍ يُنتظر أن تستكمل فيه الإدارة الجديدة هذه التفاهمات، والتي تقضي بانسحاب شامل، مع الإبقاء على عدد محدود من المستشارين المنسَّق عملهم مع قيادة «العمليات المشتركة».
قيادة «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة العراقية تصف هذا العامل بـ«التحدّي الجدّي»، ولا سيّما أن الفراع الميداني سيُملأ بأحد ما، وليس ممكناً أن «يُسند هذا الدور إلى حلفاء طهران»، يقول هؤلاء في سياق حديثهم إلى «الأخبار». فراغٌ له تفسير واحد: «على محرّكي داعش أن يدفعوه نحو ملئه». ولهذا التفسير وجهان أيضاً؛ الأوّل، الدفع بالتنظيم إلى العودة والتمدّد في المحافظات الشماليّة والغربيّة، بالتوازي مع تكثيف العمليات الأمنية في مختلف المحافظات، ما يعني - تلقائيّاً - إرباك المشهد، ومنح الإدارة الأميركية «حجّة للبقاء» (إن تصاعدت مناشدات القوى السياسية المحسوبة على البيتَين الكردي والسُنيّ، وبعض القوى الأخرى المحسوبة على البيت الشيعي)، أو «حجّةً للعودة»، وخصوصاً أن وجوهاً أمنيّة بارزة لا تستبعد سقوط مدنٍ بأيدي الإرهابيين، في حال فُقدت مبادرة الهجوم راهناً. أما الوجه الثاني، وفق هؤلاء، فمردّه إلى «رغبة الأميركيين في انسحاب هادئ»، بعيداً عن النار والمواجهة؛ وعليه، فإن عودة «داعش» ليست سوى إلهاء لـ«الحشد والفصائل».
استطاع «داعش»، طوال العامين الماضيين، إعادة بناء نفسه، آخذاً في الاعتبار المتغيّرات الإقليمية والدولية


ثمة تقديرات أمنيّة ترجّح عودة العمليات العسكرية ضدّ قوات الاحتلال الأميركي، في الأسابيع القليلة المقبلة، بمعزلٍ عن توجّهات الرئيس الأميركي جو بايدن تجاه طهران وبغداد. هنا، يسلّط الضوء عددٌ من قادة «الحشد» وفصائل المقاومة، المؤمنين بمدى العلاقة الوثيقة بين قوات الاحتلال (وبعض أجهزة الاستخبارات العربية) و«داعش»، على حقيقة التحرّكات الأخيرة، بوصفها دفعاً في اتجاه «تأمين البلاد، وحمايتها»، وصرف النظر عن تحرّك القوات الأميركية. فبعض الفصائل ترغب في أن يكون «انسحاباً تحت النار، وليس عن طريق الدبلوماسية».
في المقابل، يرفض مقرّبون من الكاظمي هذا التفسير. يسأل هؤلاء، في سياق حديثهم إلى «الأخبار»، هل تسعى واشنطن إلى إفشال تجربة الكاظمي؟ فالرجل بوصفه «أميركيّاً» من قِبل حلفاء طهران، يعمل على تكريس تجربةٍ في الحكم خاصّة به، وهو يحظى بدعم أميركي – إيراني واسع؛ وعليه، «لا يمكن الاستناد إلى هذا التفسير، بل يفرض مطالعة خاصة بالتنظيم».
2- التنظيم؛ ثمة أسئلة كثيرة تتصدّر المشهد الأمني، جلّها يتعلّق بـ«داعش» الذي استطاع، طوال العامين الماضيين، إعادة بناء نفسه، آخذاً في الاعتبار المتغيّرات الإقليمية والدولية، وعجزه عن تكريس نفسه كـ«دولةٍ» مستقلّة. يقول أمنيّون إن قدرات التنظيم البشريّة لا تزال على حالها؛ فمَن «اختفى» إبّان المعارك (يناهز عددهم 10 آلاف إرهابي)، ومَن سجن في العراق أو سوريا، عاد إلى الميدان مجدّداً (أخفقت الحكومة السابقة في معالجة ملف السجناء الإرهابيين). ومع أن التنظيم فقد جزءاً يسيراً من قدراته الماليّة، وتحديداً في الشقّ المتعلّق بسيولة نقده، إلّا أنه حافظ على بعضها، إضافة إلى كميّة مقبولة من الذهب. ويُلاحظ، في الأشهر الأخيرة، أنه عاد إلى تسديد مستحقّات مقاتليه في سوريا والعراق، بعدما عادت الحركة المالية الخاصّة به، إلى الحياة. في محافظتي ديالى وصلاح الدين، على وجه الخصوص، تدلّ المعطيات على أن «داعش» سيعود وبقوّة، ولكن بتكتيكات مختلفة، واستراتيجية مغايرة؛ فـ«الدولة لم تعد واقعاً، بقدر الثأر لانتصار العراق أواخر الـ 2017».
الثابت في بغداد، راهناً، أن «داعش» لم يهدأ منذ عام 2018. قاد عمليات عديدة ومماثلة لتلك التي وقعت في تكريت، وأدّت إلى استشهاد أكثر من 100. هو تحدٍّ قائم مرتبط بعوامل محلية بنيوية عراقية وأخرى إقليمية ودولية، لكن المريب أن قراءة حراك التنظيم لا تزال عرضة للنقاش السياسي، وحسابات مختلف القوى، عدا عن قراءاتها الخاصّة للمتغيّرات المحلية والإقليمية والدولية. هذا التحدّي، وفي ظل غياب قائد «قوّة القدس» قاسم سليماني، ونائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، سيكون مكلفاً، ولن يأخذ شكل المبادرة، في ظل التركيبة القائمة التي أولت أهميّة لمصالحها ومكتسباتها على حساب الملف الأمني.
3- غياب الاستقرار السياسي والمصالحة المجتمعيّة؛ الترابط عضوي بين الاستقرار والمصالحة، وغياب الأمرَين يفتح فجوة من شأنها أن تُملأ بالتطرّف. فغياب الثقة بين المكوّنات العراقية، وعجز الأحزاب والقوى السياسية عن إجراء مراجعة شاملة للمرحلة الماضية، وتسييل ذلك، لاحقاً، في الشارع العراقي، تعني الدفع في اتجاه التطرّف أيضاً.
اليوم، ثمة تشابك كبير في المشهد العراقي قبيل الانتخابات التشريعيّة المرتقبة في العاشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل، بوصفها انتخابات مفصليّة، من شأنها أن تحسم «وجهة» البلاد، شرقاً كانت أو غرباً، في وقتٍ تبرز فيه هذه الاستحقاقات المتشعّبة والمكلفة. أمنيّاً، ينذر المشهد بسوء. اقتصادياً واجتماعياً، لا مناص من الانفجار في ما لو فشلت القوى والأحزاب في لملمة شتاتها. يبقى التحذير الدائم من سرعة سقوط «عراق 2003»، وتداعياته في ظلّ غياب إرادة المعالجة.