بغداد ــ بيروت | «حزب الدعوة قد تلاشى تماماً وأصبح في حكم المنتهي»، كانت هذه العبارة خاتمة تقرير الرائد فاضل الزرگاني، مسؤول «شعبة التحقيق» في مديرية الأمن العامّة، والذي رفعه إلى «مجلس قيادة الثورة» عام 1974. لم يكن الرائد يبالغ في تقديراته، فقد نجحت الحكومة العراقية، بضربة استباقية، بإسقاط شبكات «حزب الدعوة الإسلامية» في معظم محافظات الوسط والجنوب، واستطاعت أن تُخرج 70 في المئة من كوادره وقياداته عن العمل. أُعدم عارف البصري وعماد الدين الطبطبائي وعز الدين القبنچي، ومعهم كوكبة من كادر «الدعوة» المتقدّم، من خلال محكمة الثورة التي ترأسها جار الله العلّاف، وقد «أصبح الدعوة جسداً بلا رأس».
()

كان الزرگاني يعبّر عن واقع غير مبالغ فيه، فـ«الدعوة لن يعود» لجنونية مهمّة جمع شتات التنظيم. إلّا أنّ هذه المهمّة اضطلع بها شخص واحد، بعدما سكنت العاصفة؛ إنّه الشهيد مهدي عبد مهدي، أو كما عُرف بين إخوته المجاهدين «أبو زينب الخالصي». هو من مواليد 1945 في مدينة الخالص في محافظة ديالى، انتمى إلى «الدعوة» في ستينيات القرن الماضي، وتدرّج ليُصبح مسؤول تنظيم الخالص، أحد التنظيمات القليلة التي نجت من ضربة 1974، إلى جانب تنظيم جامعة الموصل.
«تحرّك واتّصل بمن تعرف ولتكن تلك البداية»، كانت هذه رسالة تلقّاها الخالصي من شخصيات «دعوية» تاريخية حثّته على بدء المهمة. خلال أربع سنوات، تمكّن عبد مهدي، بمعيّة عدنان سلمان الكعبي وإبراهيم مالك، من جمع شتات «الدعوة» وتأسيس «لجنة العراق» التي جمعت الخطوط المقطوعة والكوادر المشتّتين. وعليه، عاد «الدعوة» إلى العمل في ظرفٍ قياسي، فعاد التنظيم العسكري الذي تكوّن من ضبّاط القوة الجوية، وتنظيم الموصل الذي نجا من الضربة، وتنظيم الناصرية الذي كان مقطوعاً وعماده من الشباب، وكذلك تنظيم كركوك (بالأخص من التركمان)، وتنظيم كربلاء وتنظيم النجف الأشرف أجنحة القيادة (الأول؛ السيد مرتضى العسكري والشيخ محمد مهدي الآصفي) (الثاني؛ الشيخ علي الكوراني والمهندس هادي السبيتي). سرعان ما أعادت هذه التنظيمات ربط النشاط مع لجنة الإقليم، حال إبلاغها من قبل الحاج مهدي. وقد أدارت لجنة العراق التنظيمات «الدعوتية» ببرنامج سرّي صارم، مع تكافل أسطوري من أجل إغاثة عوائل شهداء الحزب ومعتقليه، وكذلك لإسناد الدعاة المتفرّغين لأعمال الدعوة.
«لسنا بدلاء عنكم والقرار للمرجعية»، تعود هذه العبارة للشهيد أبو زينب الخالصي، في لقائه مع الشهيد محمد باقر الصدر، الذي نتج عنه دخول المرحلة السياسية واتحاد «الدعوة»، ممثّلاً بلجنة العراق، مع المرجعية، لمواجهة الحكومة العراقية. كان الشهيد مهدي عبد مهدي القناة الرابطة بين الشهيد الصدر ولجنة العراق، في أكثر المراحل حرجاً التي تلت انتفاضة عام 1977، ثم عام 1979. وأيضاً كان أبو زينب قناة المرجعية للناس، من خلال نقل أشرطة التسجيل لخطابات الصدر ورسائله في مراحل اعتقاله، وفي مرحلة الإقامة الجبرية قبيل استشهاده. وقد اضطلع أبو زينب بمهمّة شراء الأسلحة وإعداد الكوادر لمرحلة الكفاح المسلّح، التي أجهضت قبل أن تُولد بطريقة لم تُفهم حتى يومنا هذا.
يؤكّد كثيرون أن الخالصي تواصل مع المعنيّين في إيران منذ عام 1980


تولّى أبو زينب، بعد فشل الانتفاضة من الداخل، الكفاح المسلّح من الخارج عبر مجاميع جهادية تنفصل في منظّمات واجهية لكلّ واحد منها قيادة مستقلّة وقاطع عمل في العراق. كان أول الواصلين إلى معسكر الأهواز الذي أنشأه «الدعوة»، وقد كان أبو زينب هو القناة الرابطة بين المعسكر والداخل، وأحد المشرِفين في اللجنة الجهادية العليا في معسكر الشهيد الصدر. كذلك، كان أبو زينب من المؤسّسين لتنظيم «الحركة الإسلامية في العراق»، وهو أكثر التنظيمات الجهادية الواجهية نشاطاً في العراق، والتي من أكبر عملياتها اقتحام السفارة البريطانية في العراق في 19 حزيران/ يونيو 1980، ومحاولة اغتيال طارق عزيز.
ولم يقتصر نشاط أبو زينب، في هذه المرحلة، على العمل العسكري فقط، بل أعاد، وللمرة الثانية، بناء تنظيم «الدعوة» في داخل العراق، ولكن هذه المرّة بأكثر شبحية عبر «الاتصال الخيطي». جعل أبو زينب كلّ تنظيم من تنظيمات إقليم العراق يرتبط بخيوط رأسية مباشرة تقع قياداتها خارج العراق كما يلي: تنظيم البصرة وقيادته في الكويت، تنظيم النجف وقيادته في إيران، تنظيم الموصل وقيادته في لبنان، تنظيم الحلّة وقيادته في الإمارات، تنظيم جامعة بغداد وقيادته في الأردن.
في المقابل، يؤكّد كثيرون أن الخالصي تواصل مع المعنيّين في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، منذ عام 1980، خصوصاً مع مسؤولين في «الحرس الثوري» ووزارة الأمن والاستخبارات «إطلاعات»، وذلك بغية مدّه بالإمكانيّات اللازمة والقدرات المتوافرة لبناء «جناح جهادي» للحزب، قبل أن «يقدّم استقالته» مؤسِّساً خطّاً معارضاً مختلفاً عن أقرانه، مع الحفاظ على علاقاته مع إخوانه المجاهدين العراقيّين. ثمة من يختصر ذلك بالقول إنّ الخالصي هو «المؤسّس الفعلي لحركات وفصائل المقاومة».
تأثّر الخالصي بمنهج الإمام الخميني ترجمه جليّاً بشبكة علاقاته الواسعة مع الحركة الجهاديّة المتأثرّة بـ«النهج الولائي». يُنقل عنه، أنّه منذ عام 1980، رتّب خطّ تواصلٍ مع شباب «الحالة الإسلاميّة» في لبنان. وقد عُقدت جلسات عديدة في العاصمة الإيرانيّة طهران بينه وبين ممثلين عن الهيئات والتنظيمات المؤيّدة للإمام الخميني، والتي ساهمت، في عام 1982، في تأسيس حزب الله، ومقاومته. حضر المهندس، إلى جانب الخالصي، أكثر من لقاءٍ، علماً بأنّه تنقّل بين الكويت وطهران، بين عامي 1980 و1983، لهذا الغرض.
شخصيّة الخالصي، واهتماماته الأمنيّة، جعلتاه محطّ إعجابٍ لدى الإيرانيّين الذين انتدبوه ليكون أحد المساهمين في بناء الجسم الأمني للمقاومة في لبنان. في تلك السنوات، ومنذ عام 1985 حتى تحرير الجنوب اللبناني، كان التعاون بين الخالصي وقيادة المقاومة والمعنيّين في طهران كبيراً جدّاً. من بيروت، أُرسلت قيادات ميدانيّة عسكريّة لتدريب وتأهيل المجاهدين العراقيّين في المعسكرات المنتشرة على طول الجغرافيا الإيرانيّة. أما الخالصي، فجاء إلى بيروت كمساهمٍ وشريكٍ في تدريب المعنيّين في الجسم الأمني، في إطار «التعبئة الإيمانيّة الأمنيّة».
بعد سقوط النظام العراقي، عاد أبو زينب إلى العراق وبدأ مهمّة جديدة هدفها إعادة «مجاهدي الحركة الإسلامية في العراق» إلى الحياة، لمواجهة الاحتلال الأميركي، وما هي إلّا أشهر حتى داهمت قوات الاحتلال مكتبه وأسرته. ظلّ في الأسر طيلة ثلاث سنوات، وأُطلق سراحه بجهود كبيرة لرئيس الوزراء حينها نوري المالكي، حينما ألمّ به المرض واشتدّ عليه. عام 2007، ترجّل الفارس، باني «الدعوة» ومعلّم المجاهدين من طينة أبو مهدي المهندس، الذين آمنوا بأنّ الأمن لن يستتبّ بعد عام 2003، فالشيطان الأكبر في العراق ولا سبيل لدحره سوى بالمقاومة.