القاهرة | قبل أيّام قليلة، ألغى الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، زيارة كانت مقرّرة إلى بلجيكا بصفتها ثانية محطّات جولته الأوروبية بعد فرنسا. لم يُكشف السبب الحقيقي للخطوة، لكنه - كما تنقل مصادر مطّلعة - مرتبط بانتقادات حقوقية فَضّلت الحكومة تجنّبها، علماً بأن النظام اتّخذ إجراءات قضائية عديدة من أجل تسهيل زيارة باريس، لكن في بروكسل يبدو الوضع مختلفاً. أمّا في روما، فلم يعد مرحّباً بالسيسي أو أيّ من ممثّليه، لا في زيارات رسمية ولا في مناقشات جادّة، وذلك تحت وطأة الضغوط الداخلية هناك، والمطالبات بتصعيد القضية أوروبياً.منذ البداية، لم تنجح محاولات «اللفلفة» المصرية في إنهاء أزمة اختطاف الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، وتعذيبه حتى وفاته داخل مقرّ تابع لجهاز «أمن الدولة» («الأمن الوطني» حالياً)، ثمّ إلقاء جثمانه على أحد الطرق، بدءاً من تصوير الحادثة على أنها سرقة بالإكراه، وصولاً إلى خلق رواية أخرى عن قتله إثر علاقة مثلية فاشلة، وما رافق ذلك خلال السنوات الماضية من اختلاق شهادات لتشتيت فرق التحقيق. كذلك، لم تنجح التسوية القاضية باتجاه كلّ نيابة للتعامل مع الموقف وفق رؤيتها: في مصر بإغلاق القضية، وفي إيطاليا بتوجيه الاتهام إلى أربعة ضباط. فقد انتفض عليها الداخل الإيطالي، ووصلت الضغوط على الائتلاف الحاكم إلى مستوى لم تستطع معه الحكومة الدفاع عن نفسها، بل اضطرت إلى اتخاذ مواقف عدائية تجاه نظيرتها المصرية، حتى على مستوى التصريحات الرسمية. بعبارة أخرى: باتت الهدنة السياسية والاتفاق على تجاوز المسألة خلال أسابيع اتفاقاً مُلغًى بالضرورة، وليس هذا مرتبطاً بالغضب الإيطالي فقط، بل برفض القاهرة الإدلاء بأيّ معلومات على المستوى الرسمي في شأن الضباط المتّهمين الذين تمتلك نيابة روما أدلة قاطعة تدينهم. وهكذا، تتعقّد المسألة، خاصة مع وجود نية لدى روما بتوجيه الاتهامات وبدء المحاكمات فور انتهاء المهلة الممنوحة للضبّاط من أجل تقديم ادّعاءاتهم.
تعتقد مصر أن إيطاليا تشهد ردّ فعل مؤقتاً بسبب التوافق على إغلاق القضية


ويكمن التخوّف المصري الحالي في إمكانية تخلّي روما عن الاتفاق المسبق الذي يحوي رواية تقول إن العملية لم تكن منهجية وبإشراف وزارة الداخلية، بل هي «تصرف فردي»، خاصة أن رفض تسليم المتّهمين عن طريق «الإنتربول» يعني تغاضياً مصرياً عن تسليم متورّطين في جريمة قتل ثبتت إدانتهم بها في التحقيقات الأولية. حتى محاولات الوصول إلى تسوية القضية جنائياً بمحاكمة المتهمين أمام القضاء المصري، وفق إجراءات تستغرق سنوات على أن يتبعها عفو رئاسي عنهم بعد مدّة وجيزة، صارت في مهب الريح، من جرّاء رفض «الداخلية» اتهام ضباطها أصلاً، ولا سيما أن الحادث لم يكن يُقصد منه سوى «ترويع الباحث» وإجباره على مغادرة البلاد، كما تقول الرواية الرسمية. مع ذلك، تقول مصادر إن هذا السيناريو يظلّ حاضراً بقوة، لكنه حصراً بيد النائب العام حمادة الصاوي الذي أمر بإغلاق القضية، وهو وحده مَن يستطيع إعادة فتحها مع تقديم بلاغ أو معلومات جديدة رسمياً، أو بمعنى أدق: استجابة النظام للضغوط، علماً بأن القانون والدستور يمنحان الرئيس صلاحية العفو عن المتهمين، وجميعهم ضباط، وأحدهم تقاعد قبل مدة.
تعتقد مصر أن إيطاليا تشهد ردّ فعل مؤقتاً بسبب التوافق على إغلاق القضية، على رغم التصريحات الإيطالية أخيراً بأن «الأدلة صادمة». وتقول السلطات إن جميع ما تمّ التوصل إليه وعرضه اطّلعت عليه النيابة المصرية، ووجدت فيه ثغرات قانونية ستعمل على استغلالها لإدارة الموقف لاحقاً. لكن تبقى الأزمة الرئيسة هي كيفية تهدئة الموقف حقوقياً، في ظلّ سعي بعض المنظّمات إلى استغلال الحدث لإدانة النظام المصري أمام شركائه الأوروبيين. وعلى رغم استشعار القاهرة الخطر نسبياً، ومراقبة الموقف أولاً بأول، يتحدّث مصدر مطلع عن «استقرار» في العلاقات مع إيطاليا، بعيداً من القرارات القضائية التي تسير في اتجاه متوقع ومعروف مسبقاً، قائلاً لـ«الأخبار» إنه لا نية لبلاده في اتخاذ أيّ خطوة في شأن القضية، أو حتى حضور مندوب من السفارة لمتابعتها، لأنها «بُنيت على خلاف الحقيقة»! وحالياً، يدور حديث عن أن الضغوط الحقوقية العربية والأوروبية تُركّز على صادرات السلاح إلى مصر وعمليات التنسيق مع «الداخلية»، وهما ملفّان حساسان، لكن النظام يرى حتى الآن أنه قادر على إدارتهما مهما وصل الأمر في قضية ريجيني، علماً بأن الخارجية الإيطالية قالت أمس إنه يجب إشراك الاتحاد الأوروبي في الضغط على مصر كي تُسلّم الأخيرة عناوين المشتبه فيهم، فضلاً عن حثّ الاتحاد على اعتبار القضية أوروبية لا إيطالية فقط.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا