لندن | تسبّب الاحتلال المغربي لمنطقة الصحراء الغربية، منذ عام 1973، والمستمرّ إلى اليوم، بمآسٍ إنسانية لا حصر لها: آلاف القتلى والجرحى من الجانبَين، آلاف المنفيّين والمهجّرين، مليارات الدولارات لشراء الأسلحة ومعدّات القتل واغتناء كبار ضباط الجيش الملكي الفاسدين، وتدمير طرق عيش مئات الآلاف من سكان الصحراء. عبر العقود، بدا أن النظامَين المغربي والجزائري - والأخير داعم رئيس لجبهة «البوليساريو» التي تقود نظرياً نضال شعب الصحراء للتحرّر - مرتاحان لبقاء النّزاع على وضعه القائم، بعد انتقاله شبه الكلّي من العمل العسكري إلى صيغة النضال السلمي في أروقة المؤتمرات الدولية، وعبر ممثّليات دبلوماسية رمزية في بعض العواصم الأفريقية التي تميل إلى صفّ الجزائر دون المغرب. فالنظام الملكي المغربي، ببرجوازيتيه المتفرنسة والمتأسلمة، وجد في إثارة النزاع على الصحراء أداةً شديدة الفعّالية لإجهاض نضالات الطبقة العاملة في البلاد، عبر خلق وهمٍ شوفيني وطني يجمع المغاربة بصرف النظر عن مصالحهم الطبقيّة المتناقضة حول كرسي العاهل الضامن لوحدة الأراضي المغربية، فيما يُبقي النظام الجزائري، عبر دعمه الشكلي لـ«البوليساريو» وجمهوريته «النظرية»، صورة مخاتلة لشرعية ثورية مُستمدَّة من أيام حرب الاستقلال المجيدة ضدّ فرنسا (1954 – 1962)، تغطّي على فساده واستفراده بالسلطة. وأصبح هذا النظام وكيل الإمبراطورية في غرب أفريقيا والصحراء، ولاحقاً شريكها الأهمّ في «الحرب على الإرهاب» بعد أقلّ من عام على تغييب الرئيس هواري بومدين في عام 1976. ومن شأن انخراط النظامَين في حرب المراوحة هذه إبقاء التنافس محصوراً بين المجموعتين الحاكمتين في البلدين على ثروات المنطقة الغنية بالمواد الطبيعية، وسعيهما إلى استغلال موقعيهما الاستراتيجيين كبوابة لمجمل غربي القارة على المحيط الأطلسي، وكامتداد طبيعي لدوائر نفوذ كليهما في الإقليم.لكن دوافع النظامَين ومصالحهما في إبقاء الصراع قائماً في صيغته الحالية لا تعني بأيّ حال انتفاء عدالة نضال الصحراويين ونبل حربهم لتحرير آخر المستعمرات الكولونيالية الطابع في العالم، إلى جانب فلسطين المحتلة. وفي الحقيقة، قدّم الصحراويون بطولات وتضحيات جليلة، وما بخلوا بالدم والمال يوماً من أجل قضيتهم التي تلقّت صفعة مؤلمة بإعلان أميركا اعترافها بسيادة المغرب النهائية على بلادهم. إلّا أن لوماً كثيراً ينبغي أن يوجَّه، مع ذلك، إلى النخبة الصحراوية التي يجب أن تتوقف عن زرع الأوهام بين جماهير شعبها حول إمكان تحقيق الخلاص القومي عن طريق التفاوض و«الحلول السلمية»، أو على يد «الشرعية الدولية»، أو من خلال الانخراط في صراعات الأنظمة وتنافس البرجوازيات في الإقليم. لقد أضاعت جبهة «البوليساريو» وقتاً ثميناً بقبولها مبدأ «الجلوس إلى طاولة المفاوضات قصد البحث عن حلّ سياسي/ دبلوماسي للنزاع»، وخضوعها لفكرة إجراء استفتاءات تقرير المصير عبر منظمة الأمم المتحدة التي تلعب حصراً دور الشرطي الطيّب لمصلحة الإمبراطورية. لعل مرّد ذلك إلى أن الجبهة، منذ تأسيسها كمنظّمة حرب عصابات كلاسيكية، ربطت مهمّة تحرير الصحراء من الاستعمار (الإسباني ولاحقاً المغربي) بخلق «جمهورية ديمقراطية عربية»، لكنها سرعان ما تبنّت تصوّراً قومياً ضيّقاً للقضية، ولم تُعطِ قيادتها أهمية كبيرة للتحالف الموضوعي مع الطبقة العاملة لا في المغرب ولا في الجزائر، ولا حتى في موريتانيا. وبدل ذلك، تورّطت في تحالفات مع الأنظمة الحاكمة (ليبيا، الجزائر) لم تخدم قضيّة تحرّر الصحراء، بل وأصبحت عبئاً عليها في مراحل لاحقة. وهي من دون شكّ، بوضعها القائم، ستتحوّل، حال تحرير البلاد، إلى نظام عربي كلاسيكي آخر مرتبط بمصالح الهيمنة الإمبريالية المعولمة.
التقصير الأساس يُحمّل لشعوب المنطقة المغاربية على تنوّع جذورها العرقية


مع ذلك، فإن التقصير الأساس يُحمّل لشعوب المنطقة المغاربية - على تنوّع جذورها العرقية (عرباً وأمازيغ وطوارق وأندلسيين وأفارقة) -، التي، وبعد نضالات هائلة كلّفت أرواح الملايين، ما لبثت أن رضخت لخطوط تقسيمات الاستعمار وحدود دويلاته المصطنعة، وصعّدت مجموعة من الأنظمة العميلة المرتبطة به والساهرة على تأبيد ذلك التقسيم الذي يخدم مصالح الإمبريالية والنخب البرجوازية المحلية. ضاعت كلّ تلك التضحيات هباء، ولم تحقّق برجوازيات المنطقة المغاربية أيّاً من أماني الغالبية العظمى من سكّان المنطقة في تحقيق السلام والازدهار ونهضة الشعوب، ولم تكتفِ بتعظيمها الاستغلال والتخلّف والبؤس والديكتاتورية والحروب الأهلية والتورّط في خدمة المشاريع الأميركية، بل وتمكّنت من إشعال نيران الحقد والبغضاء بين المكوّنات العرقية المتنوّعة لسكان المنطقة.
لذلك، يجب أن يشكّل الإعلان الأميركي دافعاً للشعوب المغاربية، على اختلاف ساحاتها الجغرافية، لاحتضان نضال الصحراويين كجزء لا يتجزّأ من نضالها المحلي في مواجهة الأنظمة المتأمركة، ولا سيما في المغرب الذي يشهد الصراع الطبقي فيه زخماً غير مسبوق، وينبغي أن تكون قضية إنهاء احتلال الصحراء ضمن أولوياته كاستراتيجية لحرمان النظام الملكي من ورقته الشوفينية الأثيرة بعد سقوط ورقة «القدس» وخروجه إلى العلن في شأن العلاقات مع الكيان العبري. اليوم، وبمعزل عن القيادات التقليدية التي ما زالت تُمنّي النفس بالحلول السياسية، واليسار الذي تخلّى عن دوره التاريخي في العملية الثورية، تبقى شعلة الأمل مضاءة كما دوماً بيد جماهير الشعب الصحراوي التي من جهتها لا تعرف اليأس، وتستمرّ على رغم كلّ شيء في خوض المواجهات ضدّ قوات الاحتلال الملكي، ولا تتوقف انتفاضاتها العارمة عبر كلّ الأراضي الصحراوية المحتلة، في موازاة النضالات البطولية اليومية التي يخوضها المعتقلون السياسيون الصحراويون داخل سجون الملك، كما الطلاب الصحراويون في الجامعات.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا