تبدّلت سرديّة تحالف العدوان في اليمن، ولم يعد طريق السلام يبدأ من التزام صنعاء بـ"المرجعيات الدولية"، وعودة "الشرعية"، وتسليم السلاح الثقيل والصواريخ الباليستية، بل بات أقربُ الطرق إلى السلام، كما تراه الرياض، التوصّل إلى اتفاق مع حركة "أنصار الله" على إنشاء منطقة عازلة في الشريط الحدودي الواقع بين اليمن والسعودية. وهو المطلب نفسه الذي رفضته الحركة منذ العام الأول للعدوان، ودعت إزاءه إلى إقامة علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة بين الدول، وتجاهلته في كلّ اللقاءات السرّية والعلنية، المباشرة أو غير المباشرة، التي جرت مع الجانب السعودي، وفي كلّ المشاورات التي رعتها الأمم المتحدة بين الأطراف اليمنيين.وعلى مدى السنوات الماضية، وخصوصاً ما بين 2016 و2019، حاولت الرياض إحداث اختراق عسكري على الأرض في جبهات الحدّ الجنوبي لفرض منطقة عازلة بقوة السلاح، حيث دفعت بقوات سودانية، ونشرت أكثر من 20 لواءً عسكرياً يمنياً، بعضها موالية للرياض، ودفعت بعدد من ألوية الحرس الملكي وقوات النخبة السعودية، مستخدمةً مختلف أنواع الأسلحة لتخوض معركة غير متكافئة مع قوات صنعاء. لكن ذلك التصعيد، الذي شمل جبهات ميدي في حجة والبقع والظاهر وباقم وعلب، وصولاً إلى كتاف في صعدة، انتهى بتوغّل الجيش واللجان الشعبية في العمق السعودي على امتداد الشريط الحدودي في جيزان وعسير، وتكبيد القوات السعودية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وإنهاء مغامرة الرياض بهزيمة قاسية تَمثّلت في عملية "نصر من الله" التي سقطت فيها عدّة معسكرات بكامل عتادها وعديدها تحت سيطرة قوات صنعاء أواخر آب/ أغسطس 2019، ليسقط حلم السعودية بفرض منطقة عازلة بالقوة، وتُجبَر الرياض على فتح باب التواصل مع صنعاء في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مستخدمةً لغة الاستجداء لتلافي نشر وقائع هزائمها العسكرية في وادي آل أبو جبارة وفي البقع وكتاف.
ومع سقوط الخيار العسكري، عادت الرياض مجدّداً إلى الترويج لمطلبها عبر تسريبات إعلامية، تحدّثت فيها عن تقديمها عرضاً (خلال مباحثات بين وفد صنعاء المفاوض في مسقط ومسؤولين سعوديين عبر دائرة تلفزيونية) بوقف إطلاق النار مقابل موافقة "أنصار الله" على إقامة منطقة عازلة في الحدّ الجنوبي، متجاهلة أن الحركة أطلقت مبادرة شاملة في حزيران/ يونيو الماضي، تشترط فيها التفاوض مع السعودية على قاعدة الندّ للندّ. ووفقاً لنصوص مبادرة السلام المُقدّمة من صنعاء للأمم المتحدة، فإن ثاني أهمّ بنودها، بعد وقف إطلاق النار، ينصّ على التزام دول العدوان بسحب القوات الأجنبية من الأراضي اليمنية كافة، من دون أيّ استثناء.
تخشى الرياض من موقف «أنصار الله» الضبابي من «اتفاق جدّة»


وردّت صنعاء على التسريبات السعودية بعدّة رسائل، كان أبرزها ما جاء على لسان رئيس "المجلس السياسي الأعلى"، مهدي المشاط، الأربعاء الماضي، من أن طريق السلام في اليمن يبدأ من الجوانب الإنسانية، و"إن أراد السعوديون أن يشعروا بالتفاؤل، فعليهم الدخول إلى بوابة السلام عبر هذه الجوانب". وعلّق المشاط على إعراب مندوب السعودية في مجلس الأمن عن تفاؤله بخطوات السلام، بالقول: "لا يجب أن يشعر المندوب السعودي في مجلس الأمن بالتفاؤل، وأقول له تفاؤلك في غير محلّه طالما استمرّ العدوان والحصار".
ويرى مراقبون في إصرار الرياض على إنشاء المنطقة العازلة بين اليمن والسعودية بعرض 20 كيلومتراً، دليلاً على تخوّفها من تعاظم قوة "أنصار الله" ــــ وخصوصاً في ظلّ تآكل مكاسب الأطراف الموالية للعدوان على الأرض ــــ، واحتمال تمكّنها من تأليف حكومة مركزية قوية بأجندة معادية للسعودية. ويرى المراقبون أن الرياض تسعى إلى استدراج الحركة وإبرام اتفاق معها حول منطقة فاصلة بين البلدين، كون موقف "أنصار الله" ضبابياً من "اتفاق جدة" المُوقّع بين الجانب السعودي والنظام السابق، والذي تنازل فيه الأخير عن 420 ألف كيلومتر من الأراضي اليمنية في جيزان ونجران وعسير. يضاف إلى ذلك أن السعودية تمدّدت على الأرض في مناطق حدودية غنية بالنفط، وهي تسعى بموجب الاتفاق إلى تثبيت سيطرتها على تلك المناطق، وتحديداً حقل حرض النفطي في محافظة حجة، ومواقع نفطية متعدّدة في المناطق الحدودية في محافظة الجوف، فضلاً عن أنها تسعى ليشمل الاتفاق صحراء الربع الخالي وبحيرة النفط فيها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا