الخرطوم | معتذراً إلى الشعب السوداني وقواه الحيّة على استمراره لما يزيد عن العام في إطار «تحالف قوى الحرية والتغيير»، الذي قَبِل التفاوض مع العسكر بعد سقوط نظام عمر البشير في نيسان/ أبريل من العام الماضي، وبعد مجزرة فضّ الاعتصام من أمام مباني القيادة العامة، وما نتج من ذلك التفاوض من تمكينٍ للجنة الأمنية (العسكر) في هياكل السلطة الانتقالية، أعلن «الحزب الشيوعي السوداني»، مطلع الأسبوع الحالي، انسحابه من «ائتلاف الحرية والتغيير» و«قوى الإجماع الوطني». وبَرّر الحزب خطوته تلك بأن السلطة الانتقالية تعمل عبر هياكلها المختلفة على تقليص مساحات الحرّيات، وتنتهك الحقوق، في محاولة لوقف المدّ الثوري، وإفراغ شعار «الثورة» (حرية، سلام، عدالة) من محتواه، بالإضافة إلى مصادرة أدوات التغيير المُتمثّلة في المجلس التشريعي والحكم الشعبي المحلّي والمفوّضيات.وما فتئ «الشيوعي»، أخيراً، يجاهر برفضه سياسات الحكومة الانتقالية ومحاولاتها الانفراد بقرارات ليست من ضمن المهامّ الموكلة إليها وفق ما نصّت عليه الوثيقة الدستورية، وليس آخرها المضيّ في التطبيع مع إسرائيل، والذي اعتبره الحزب خيانة لمبادئ «الثورة»، محذّراً من تمدّد المكوّن العسكري وتغوّله على سلطات الجهاز التنفيذي. إذ إن الخطوات التي اتخذها رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، خصوصاً في ملف التطبيع، بدت بالنسبة إلى «الشيوعي» مؤشّراً إلى تعاظم نفوذ العسكر، وتكريساً لتدخّله في ملفّ العلاقات الخارجية التي تقع ضمن مهام مجلس الوزراء.
لكن، مع ذلك، بدا لافتاً خلوّ بيان الحزب الأخير من أيّ إشارة إلى قضية التطبيع. وهو ما يفسّره مصدر في «الشيوعي» بأن الموقف من هذه القضية يُفهَم ضمناً من النقاط التي وردت في البيان، قائلاً: «الآن، وبعد أكثر من عام على تكوين هياكل السلطة الانتقالية، ما زالت بلادنا تواجه الأزمات، مع الإبقاء على القوانين المُقيّدة للحرّيات، وعقد الاتفاقيات والتحالفات من وراء ظهر شعبنا». وتُبيّن المتحدّثة باسم الحزب، آمال الزين، بدورها، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الحديث كان عن مجمل تحفّظات الحزب على تجاوزات الحكومة»، لافتةً إلى «(أننا) تَحدّثنا عن الخضوع لسياسة المحاور الدولية والإقليمية، والتطبيع جزء من هذا الخضوع»، خصوصاً أنه تمّ «من وراء الشعب السوداني، وبترتيبات قديمة وفق ما اتضح لنا لاحقاً». يأتي ذلك فيما تمضي الحكومة الانتقالية قُدُماً في ملف التطبيع؛ إذ وفق مصادر إسرائيلية، يعتزم وفد فنّي إسرائيلي التوجّه إلى الخرطوم الأسبوع المقبل لتعزيز عملية تطبيع العلاقات التي أعلن عنها البلدان في الـ23 من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
قرار «الشيوعي» جاء في توقيت كان سيشهد انقساماً حادّاً داخل الحزب في حال لم يتمّ تمريره


وبحسب مراقبين، فإن التيار المناهض للمشاركة في الحكومة الانتقالية داخل «الشيوعي» هو التيار المسيطر الآن، وقد تَمكّن أخيراً من الضغط على مركزية الحزب ودفعها إلى الانسحاب من الائتلاف الحاكم. ويرى متابعون أن قرار «الشيوعي» جاء في توقيت كان سيشهد انقساماً حادّاً داخل الحزب في حال لم يتمّ تمريره؛ إذ إن التيار الذي يتبنّى قرار الانسحاب يرى أن المنادين بالمشاركة في السلطة الانتقالية واستمرارها يُمثّلون «جناح الهبوط الناعم والالتفاف على مكتسبات الثورة». بل إن مصدراً من داخل الحزب لا يتردّد في الدعوة إلى إخضاع ممثّلي ذلك التيار لـ«المحاسبة الحزبية الصارمة»، معتبراً أن «الاعتذار وحده لا يكفي».
ويرى محلّلون أن انسحاب «الشيوعي» من الحاضنة السياسية للسلطة الانتقالية يدلّ على فشل الأحزاب السياسية في الخروج بالبلاد من المأزق الذي تمرّ به، والحفاظ على «المكتسبات» التي تَحقّقت بفضل «تضحيات الشباب»، وليس نتيجة ضغوط من الأحزاب. وفي مواجهة ذلك، يراهن «الشيوعي»، بحسب هؤلاء، على الشارع للعمل على إسقاط الحكومة. لكن البعض يرى في ذلك رهاناً خاسراً؛ إذ إن الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها البلاد أقعدت الشباب عن الخروج إلى الشارع، بالإضافة إلى الإحباط الكبير الذي أصابهم نتيجة فشل الحكومة في إحداث التغيير الذي ينشدونه. لذا، يرى مراقبون أن الحزب ربّما تَعجّل في خروجه من التكتل السياسي الذي كان ينضوي تحته، ووضع نفسه في خانة المعارضة من دون امتلاك أدواتها اللازمة لترك تأثير ملموس.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا