أثمرت أسابيع من التحرّكات الدولية والإقليمية تراجع عمليات إدخال الأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا، سواء من ناحية محور المشير خليفة حفتر في شرق البلاد المدعوم من مصر والإمارات وروسيا، أو من ناحية حكومة «الوفاق» المتركّزة في طرابلس والمدعومة من تركيا. بالتوازي، ظهرت فجأة مفاوضات في المغرب، أبطالها وفدان عن البرلمان العامل في طبرق (شرق) و»المجلس الأعلى للدولة» العامل في طرابلس، والأخير هيكل استشاري تَأسّس بموجب «اتفاق الصخيرات». خَلُصت النقاشات في المغرب، السبت الماضي، إلى توقيع «مسوّدة اتفاق» حول معايير تعيين المسؤولين في المناصب العليا في البلاد، وهي تخصّ تحديداً المؤسسات المالية والإدارية المهمّة، وإعادة توزيع مقارّ عملها في شرق ليبيا وجنوبها وغربها. كذلك عُقدت في سويسرا لقاءات غير معلنة لسياسيين، تجهيزاً لمؤتمر أوسع في الأسابيع القليلة المقبلة، يُفترض أن تُعلَن فيه خريطة طريق للمرحلة القادمة.
من ناحيته، أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق»، فائز السراج، الأربعاء، استعداده للاستقالة بحلول نهاية الشهر المقبل، في حال اتفاق المشاركين في المفاوضات على تركيبة جديدة للسلطة التنفيذية. أمّا الحديث المتداول في الأروقة السياسية فيشير إلى التوجّه لتشكيل مجلس رئاسي جديد لحكومة وحدة، بتركيبة أقلّ عدداً من رئيس ونائبين (ينحدر كلّ منهم من أحد أقاليم البلاد الثلاثة)، ليعمل لمدّة لا تتجاوز عاماً ونصف عام تجرى في نهايتها انتخابات.
ونظراً إلى شمولية الاتفاق الذي يجري التفاوض حوله، فإنه يطاول أيضاً ملفّ قطاع الطاقة الذي يدرّ على البلاد مداخيلها الرئيسة. وقد أعلن الأميركيون، أخيراً، أن النفط سيعود إلى التدفق منتصف هذا الشهر، فيما أعرب حفتر عن استعداده لتطبيق ذلك باعتبار أن مَن يقفلون النفط منذ مطلع العام موالون له، لكن الأمر لم يُنفّذ حتى الآن، ويبدو أنه لن يُنفّذ حتى تكتمل التفاصيل ويضمن المشير لداعميه حصة من مداخيله.
تَعرّض هذا المسار التفاوضي المتواصل لنقد حادّ من الرأي العام الليبي، على اختلاف ولاءاته. ويعود ذلك أساساً إلى المنهج الفوقي الذي يقوم على تشريك جزء من النخب المتورّطة أصلاً في الصراع. يعتبر كثيرون ما يحصل استنساخاً لتجربة الصخيرات (نسبةً إلى اسم المدينة المغربية التي وُقّع فيها اتفاق المصالحة عام 2015)، التي أشرفت عليها قوى دولية وحَوّلتها إلى أمر واقع، لكنها ولّدت أزمات وانتهت بفشل ذريع.
بمعنى ما، يُعدّ ما يحصل ارتداداً عن المنهج الذي تَبنّاه المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا، غسان سلامة، الذي سعى إلى وضع أسس حوار يشارك فيه أوسع طيف ممكن من الفاعلين، قبل أن يحبطه هجوم قوات حفتر على طرابلس بداية العام الماضي. يبدو المسار التفاوضي القائم حالياً نتاج دبلوماسية دول تسعى إلى لملمة الوضع والوصول إلى حلول بأسرع وقت، أكثر من سعيها إلى بناء أسس صلبة للمستقبل.
يعتبر كثيرون ما يحصل استنساخاً لتجربة الصخيرات التي ولّدت أزمات وانتهت بفشل ذريع


ثمّة تفاصيل كثيرة قد تحبط هذا الاتفاق في حال توقيعه. أول العوائق هو التوافق حول الشخصيات التي ستُشكّل المجلس الرئاسي الجديد، وهو ما سيخضع بالضرورة لحسابات المصلحة، المحلية والخارجية، فيما قد يتمّ اللجوء إلى شخصيات لم يقترحها أحد، كما في حالة السراج وفريقه سابقاً. كذلك، تبرز ضرورة المصادقة على المجلس الجديد بالأغلبية من البرلمان و»المجلس الأعلى للدولة»، الأمر الذي فشل في حالة حكومة «الوفاق».
أما الأهمّ، والأخطر من كلّ ذلك، فهو ما يتعلّق بالقوات العسكرية، وتوزيع موارد المحروقات. أيّ موقع سيُمنح لخليفة حفتر، مع الأخذ في الحسبان أن الرجل مرفوض من جميع الفاعلين العسكريين في غرب البلاد؟ وهل سيتمّ وضع صيغة رسمية لتقسيم موارد النفط والغاز بين الأقاليم، علماً بأن ذلك سيُرسّخ الفصل الجغرافي القائم خاصّة بين الشرق والغرب، ويفتح الباب من جديد أمام دعوات الفدرالية؟
لا يبدو أن ثمة إجابة واضحة حتى الآن عن تلك التساؤلات، في حين تشير فورة البيانات والبيانات المضادّة في ليبيا خلال الأيام الأخيرة إلى وجود منسوب توتّر عالٍ واختلافات عميقة، ظهرت خاصة داخل معسكر غرب البلاد. طفا آخر هذه التوترات إلى السطح ليل الخميس - الجمعة، وكان في محوره نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق»، أحمد معيتيق.
يُعرَف عن معيتيق علوّ سقف طموحاته الشخصية، وقد دخل في خلافات سابقاً مع فائز السراج. ووفق ما قال مسؤولون من غرب ليبيا، ومصادر تحدّثت إلى وكالة «بلومبيرغ»، عقد الرجل صفقة مع حفتر حول النفط الأسبوع الماضي. تقول الرواية إن معيتيق التقى أحد أبناء حفتر في مدينة سوتشي الروسية، واتفقا على استئناف إنتاج النفط، كما اتفقا على أن يعلن هو الأمر الجمعة من مدينة سرت وسط البلاد الواقعة تحت سيطرة حفتر، والتي يريد البعض تحويلها إلى عاصمة جديدة.
رفضت وجوه بارزة في «الوفاق» الأمر، ومنعت الرجل من استقلال مروحية إلى سرت. بدوره، نشر معيتيق، الجمعة، بياناً حول «النقاط التي تمّ الاتفاق عليها» مع محور حفتر لاستئناف إنتاج النفط. أهمّ النقاط الواردة في الوثيقة المنشورة هي الانطلاق «فوراً» في إنتاج النفط وتصديره، على أن تُشكَّل «لجنة مشتركة» تشرف على إيرادات النفط «والتوزيع العادل للموارد» خلال الأشهر الثلاثة القادمة. وتشير الوثيقة إلى فتح الاعتمادات للبنوك في كامل البلاد، ما يعني توفير العملة والتصاريح لبنوك شرق ليبيا الواقعة تحت هيمنة حفتر، وهو أمر كان يحدّه المصرف المركزي في طرابلس. علاوة على ذلك، ينصّ بند على «معالجة الدين العام لكلّ من الطرفين»، ما يعني تسديد الديون التي صرفها حفتر لتمويل نشاط قواته والحكومة الموازية في شرق البلاد.
لم تنتظر «المؤسسة الوطنية للنفط»، المشرفة رسمياً على القطاع، صدور بيان معيتيق. قالت المؤسسة، في منشور فجر الجمعة، من دون ذكر أسماء الأشخاص، إنها تستنكر «محاولات البعض إجراء مباحثات توصف بالسرية وبخلاف الثوابت... لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة»، ورفضت رفع «حالة القوة القاهرة» من دون تطبيق شروطها التي من أهمّها سحب مقاتلي مجموعة «فاغنر» الروسية من مواقع إنتاج النفط وتصديره، وهو أمر غاب عن نص «الاتفاق» الذي نشره نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة طرابلس، لأن من الواضح أنه جرى برعاية روسيا التي تعمل على احتواء جهود الولايات المتحدة الرامية إلى إخراجها من الملف.
لا يُعرَف حتى الآن ما سيكون مصير هذه الصفقة بين معيتيق وحفتر. إذ بينما أصدرت قوات حفتر أمراً باستئناف إنتاج النفط وتصديره، تتّجه الأنظار إلى محور غرب ليبيا الذي يتوقع أن يرفض تلك الترتيبات. وفي الأحوال جميعها، يؤشر ما حصل إلى تصاعد حدّة الخلافات داخل هذا المحور، في ظلّ محاولة معيتيق فرض نفسه في المشهد ليضمن بقاءه، فيما لا يملك سلطة اتخاذ قرار مماثل بمفرده.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا