تشتغل الإدارة الأميركية، منذ بعض الوقت، على تحصين جبهتها الداخلية عبر رفدها بمجموعة قرارات تتّضح عبثيتها، يوماً تلو آخر. يعتقد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأن مِن شأن «التفاتاته» الخارجية الكثيرة هذه الأيام أن تُفرج أسارير حملته الانتخابية، بعدما أطاحت تبعات وباء «كورونا» على الاقتصاد الأميركي منجزاته على المستوى الداخلي. لم تكن السياسة الخارجية، في عهد الإدارة الحالية، إلّا انعكاساً لمشهد انتخابي سيطر هاجس الولاية الثانية عليه، حتى بات كلّ الشغل يندرج في إطار محاولة كسبها: العداء تجاه الصين - وقبلها وبعدها إيران -، ثمّ الدفع في اتجاه صيفٍ تطبيعي، يحمل وزير الخارجية، مايك بومبيو لواءه، بينما يجول على العواصم العربية ليقنعها بأنه «كلّما احتضن الشرق الأوسط إسرائيل، كان مستقبله أكثر إشراقاً».اعترف وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، بأن الأكاذيب لازمت مسيرته المهنية منذ انتخابه نائباً يمينياً متطرّفاً عن «حزب الشاي» في عام 2010. قادته صدفة انتخاب دونالد ترامب رئيساً إلى شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، قبل اختياره على رأس الدبلوماسية الأميركية. «كنتُ مديراً للسي آي إيه. لقد كَذبنا، وخَدعنا، وسرقنا. كان الأمر كما لو كنّا تلقّينا دورات تدريبية كاملة». بهذا التبسيط، يختصر بومبيو سيرته الغنية، وتوازياً سلوك إدارته، وكأنه يقول: وإنْ يكن، المهمّ هو ما تجنيه في نهاية الأمر.

الصين الشيوعية... والحاجة إلى الإبداع
«بالعودة إلى ملاحظاتي: أريد أن أبدأ، مِن حيث أبدأ عادةً، ببعض البنود عن الصين الشيوعية». لم تغب الصين يوماً عن برنامج عمل الإدارة الحالية. كثيراً ما اقتحم الارتجال «تكتيك» البيت الأبيض إزاء دولة صارت تمثّل «التهديد الأكبر للولايات المتحدة». إلى مهمّاته الكثيرة على رأس الدبلوماسية، حَمل بومبيو حمولةً زائدة، عنوانها: مجابهة الصين، بعدما «فشل الانفتاح الذي قاده ريتشارد نيكسون قبل نصف قرن». من هنا، جاءت دعوته دول «العالم الحرّ» إلى قيادة جبهة موحّدة لمحاربة «الطغيان الجديد» الذي تمارسه، على حدّ قوله، «الصين الشيوعية». في الأساس، هو أراد في الخطاب الذي قدّم فيه للعالم الاستراتيجية الأخيرة لإدارته تجاه الصين، الشهر الماضي، افتعال حرب باردة جديدة. قال: «نحن، الدول الحرّة في العالم، يجب أن نُحدث تغييراً في سلوك الحزب الشيوعي الصيني بطرق أكثر إبداعاً وحزماً، لأن تصرفات بكين تمثّل تهديداً على شعبنا وعلى ازدهارنا». وصوّب على سياسات الإدارات السابقة، المتمثّلة في «الانخراط الأعمى» الذي سمح لبكين بـ»نهب ملكيتنا الفكرية وأسرارنا التجارية»، وتعريض الممرّات المائية في العالم للخطر، واستغلال التجارة الدولية، وتوسيع نطاق التجسّس في سعيها إلى «الهيمنة العالمية». بالنسبة إلى بومبيو، أفادت سياسة نيكسون، بكين، أكثر بكثير ممّا أفادت واشنطن، لكونها «أعادت إحياء اقتصاد فاشل، من أجل رؤية بكين وهي تعضّ الأيدي الدولية التي كانت تغذّيها».
منذ ما قبل ظهور وباء «كورونا»، بدا أن انعكاسات حرب التجارة التي افتعلتها إدارة ترامب ضدّ بكين لوضع أسس جديدة للهيمنة، ارتدّت سلباً على حسابات الرئيس. ومع بدء تفشّي الفيروس، في كانون الثاني/ يناير الماضي، ظلّ الرئيس الأميركي يتحدّث عن «صفقة تجارية عملاقة» ستقرِّب بين البلدين، وعن إعجابه بتعامل نظيره الصيني، شي جين بينع، مع الوباء: «هناك انضباط كبير في الصين، حيث يقود الرئيس شي بقوّة ما ستكون عملية ناجحة للغاية».
بومبيو: كنتُ مديراً للسي آي إيه. لقد كَذبنا، وخَدعنا، وسَرقنا. كان الأمر كما لو كنّا تلقّينا دورات تدريبيّة كاملة


تَغيّر الكثير منذ ذلك الحين، إلى درجة أن ما ورد في خطاب بومبيو يمثّل «واحداً من أسرع التحوّلات في المواقف وأكثرها دراماتيكية تجاه قوّة عظمى»، والتعبير لدبلوماسي أميركي تحدّث إلى «نيويوركر» أخيراً من دون الكشف عن اسمه، فيما لفت دبلوماسي آخر هو ستابلتون روي، الذي شغل منصب السفير الأميركي لدى الصين في التسعينيات، إلى غياب التفكير الاستراتيجي لدى هذه الإدارة الساعية إلى إرضاء ناخبين يرَون في الصين تهديداً مباشراً. يعتقد روي بأن الاندفاعة، من دون تفكير، إلى مواجهة مع الصين «تُعدُّ سوءَ فهمٍ للوضع في هذا البلد، وفي شرق آسيا عموماً، حيث لا تسعى البلدان إلى مواجهة». يقول روي إن جميع أصدقاء أميركا القدامى في منطقة آسيا - المحيط الهادئ (اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وأوستراليا وإندونيسيا والفيليبين وتايلاند وتايوان)، لديهم مصالح تجارية كبيرة مع بكين، ما يعني أن «الاستقطاب لا يتماشى مع اهتماماتهم». وإذا أضيف إلى هذه الدول حلفاء واشنطن الغربيون، يبقى ترامب وحيداً في حربه الباردة، خصوصاً بعدما قلّل، توازياً، من حجم انخراط بلاده على مستوى العالم، في حين عزّزت الصين حضورها، وسط تراجع شعبية الولايات المتحدة، وفقاً لاستطلاع رأي نشرته مؤسسة «غالوب» الشهر الماضي، وبيّن أن ثلث سكان العالم فقط يوافقون على القيادة الأميركية الحالية. وهذا أيضاً لا يبشّر بالخير لحشد الدعم العالمي لمواجهة القوة الآسيوية أو احتوائها.
اللافت في خطاب بومبيو، أيضاً، كان دعوة العالم إلى «إشراك الممثّلين الجيّدين (في الصين) وتمكينهم»، ما عُدَّ بمثابة نداء مستتر إلى الشعب للانتفاض ضدّ حكومته، على رغم الحديث السالف عن الحاجة إلى الإبداع. مع ذلك، فإن صدى فكرة حرب باردة جديدة مع الصين سيتردّد طويلاً في الداخل الأميركي، حيث يؤيّد كلا الحزبَين الجمهوري والديموقراطي موقفاً حازماً إزاء بكين. وعليه، ستمثّل هذه القضية رأس أولويات السياسة الخارجية الأميركية لأجيالٍ قادمة، كما يتوقّع المتخصّص في الشؤون الآسيوية، كورت كامبل (عَمِل في وزارتَي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي). غير أن انزلاق الولايات المتحدة «نحو علاقات تصادمية تنافسية، ستكون له عواقب يصعب التنبّؤ بها»، وهو ما يطرَح سؤال: «إلى أين تتّجه إدارة ترامب في فكرتها لتغيير النظام؟»، أم أن ذلك لا يعدو كونه خطاباً ينفع في موسم الانتخابات.

بين العقيدة والسياسة
توازياً مع الحملة ضدّ الصين، تقود الإدارة الأميركية جهوداً كبيرة لاستنساخ التجربة الإسرائيلية - الإماراتية، قبل نحو شهرين مِن موعد انتخابات الرئاسة. التوقيت هو جلّ المسألة؛ لم يسترح بومبيو بين جولتَيه الأوروبية والشرق أوسطية. في الأولى، جال على دول وسط أوروبا وشرقها لمواجهة المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية الروسية والصينية على السواء. وفي الثانية، التي انطلقت مِن إسرائيل، أول من أمس، جاء المسؤول الأميركي لـ»يبشّر» بفوائد التطبيع، ويدعو الدول للانضمام إلى مركب النجاة. ومن أجل تلك الغاية تحديداً، كان خطاب بومبيو أمام «إيباك» في آذار/ مارس الماضي، حين كرّر الكلمات نفسها مرّات كثيرة: «كلّما احتضن الشرق الأوسط إسرائيل، كان مستقبله أكثر إشراقاً. إنها مسألة بسيطة للغاية».
ربّما يساعد إيمان بومبيو الإنجيلي ووجهات نظر «نهاية العالم» في فهم وتفسير الجهود التي يبذلها فريق ترامب في إطار قيادة حملة التطبيع، ولا سيما أن دعم مَن تُطلق عليهم تسمية «المسيحيين الصهاينة» لإسرائيل حاسم وغير مشروط ولا هو قابلٌ للنقاش أصلاً. وليست إجابة بومبيو عن سؤال إن كان الله قد أرسل ترامب لإنقاذ اليهود، إلا الدلالة الأوضح في هذا الإطار: «كمسيحيّ، أعتقد بالتأكيد أن هذا ممكن... أنا واثق مِن أن الربّ يعمل هنا» (من مقابلة أجراها وزير الخارجية مع شبكة البثّ المسيحية في آذار/ مارس 2019 بعد عودته مِن جولة في كنيسة القيامة). على أن الكثير من التساؤلات تُثار حول مدى تأثير المعتقدات الإنجيلية على الدبلوماسية الأميركية، نظراً إلى غلبة هذا التيار على الإدارة الحالية، وبقاء اليد الطولى له في تحديد أولويات السياسة الخارجية، لكونه يمثل عماد ناخبي ترامب من الإنجيليين المتطرفين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا