كسب | الطريق إلى مصيف كَسَب الساحر (ريف اللاذقية الشمالي) فقدَ رونقه وحماسة قاصديه. اللباس المموّه يغطي المشاهد السياحية. خط الإسعاف المفتوح لنقل الجرحى، يطغى على جمالية المكان. كل من يعبر الطريق في اتجاه كسب سيفتقد رائحة أزهار شجر الليمون، فالجو ملوّث برائحة دخان الشجر المحترق والدماء.
تختلف معركة كسب عن كل معارك الأراضي السورية الأخرى. ملاحظة تولّدها وقفة تأمل قصيرة في طبيعة المنطقة. الجبال الوعرة التي حضنت ثورات الأجداد على المحتلين العثمانيين والفرنسيين لا تسمح بحرب مدججة بالآليات العسكرية. الطبيعة الجبلية المغطاة بأحراج كثيفة تتجاوز أعمار بعض أشجارها مئات السنين، تعطي الفرصة لقتال بري بين طرفين يتنافس كل منهما في نسب شرعية «صاحب الأرض» إلى نفسه. الشرعية المطلوبة لدى المعارضة نسفتها التسجيلات المصوّرة للمسلحين على الصفحات الإلكترونية، بمشاركة قادة ميدانيين من جنسيات مختلفة في القتال ضد الجيش، فيما الجيش السوري يقف داعماً بمدفعيته وطائراته الحربية أبناء الساحل بمختلف طوائفهم، ضد مسلحين مدعومين من الجيش التركي. حرب التمركز على القمم الاستراتيجية توقفت. وأصبحت وظيفة الجيش ردّ الهجوم منعاً لتوسع المسلحين أكثر. قمة الــ45 خالية من عناصر الجيش، لكنها «تحت سيطرته بالنيران». قمة جبل النسر، كذلك، خالية من أي تمركز عسكري. وخلافاً لما هو شائع، فإن الاشتباكات متركزة في منطقة نبع المر، التي تعد نقطة تماس ولم يسيطر الجيش عليها بعد. يقول مقاتلون ضمن التشكيلات الرديفة للجيش ان مسلحي «جبهة النصرة» وحلفاءهم لم يستطيعوا التثبيت داخل بلدة كسب السياحية، إلا أن ضواحيها تحت سيطرتهم. وبرغم كل الأقاويل، فإن المنفذ البحري الذي احتفل المسلحون بالوصول إليه من خلال السيطرة على قرية السمرا، ليس إلا منطقة شديدة الوعورة.

لا يمكن المواجهة إلا من خلال حرب عصابات هي حقيقة يعرفها أصحاب الأرض

وبحسب مصدر ميداني، لا يمكن الاستفادة من المنفذ في ظل المعارك الدائرة، إلا في حال عدم قدرة الدولة على استرجاعه أبداً. ويضيف المصدر أن الحديث عن توغل بري للمسلحين مسافة 8 كلم بعد الحدود التركية «كذبة يروّج لها إعلامهم»، بينما الواقع أن المسافة التي أصبحت تحت سيطرتهم هي أقل من 3 كلم ضمن الأراضي السورية. كلام لا يبعث التفاؤل في نفوس المقاتلين السوريين، الذين شهدوا، أول من أمس، عبر مناظيرهم الليلية إنزالاً بحرياً لمئات المسلحين، بواسطة طراد تركي، في قرية السمرا. لا يمكن المواجهة إلا من خلال حرب عصابات. هي حقيقة يعرفها جيداً أصحاب الأرض، إذ تتوقف المواجهات ليلاً، وتستأنف صباحاً، كفرصة لالتقاط الأنفاس، بهدف الانتقال إلى شوط المعارك الأقسى. وبرغم غياب ما يبشّر بالخير ميدانياً، يؤكد المقاتلون الداعمون للجيش أن الحرب الحالية هي حرب وجود بالنسبة إليهم، وهذا يعني أن لا يأس برغم كل الصعوبات.
اسم الطريق «الشلال المهجور»، يتبع لمنطقة الشيخ حسن، التي تعد من أخطر نقاط التماس. قذائف الهاون والصواريخ تهطل كالمطر على المنطقة ومرتفعاتها التي شهدت محاولات خطرة للتسلل. كل ما تستطيع فعله لتفادي الخطر المحدق بك هو الانبطاح أرضاً كلّما سمعتَ صوت انطلاق القذيفة. أحد المقاتلين يهزأ من الفكرة، محاولاً إضفاء بعض المرح على الجو المتوتر. يقول: «القذيفة التي تقتلك لن تسمع صوتها». المقاتلون المتمرسون يحاولون مدّ يد العون لأي مدني في المنطقة، بهدف تخفيف الذعر. الشجر المحترق في المنطقة الخضراء يبعث على الخيبة. وبين آثار هبوط القذائف على كل المرتفعات، وأعمدة دخان ترتفع في السماء البعيدة، ما زالت الأشجار المحترقة واقفة،. إلا أن للسواد رهبته وشؤمه في نفوس أبناء المنطقة المكلومين على خسارة الثروة الحرجية. «سيستميتون للوصول إلى (بلدة) رأس البسيط. المعركة الآن لصدهم عن هدفهم الرئيسي»، يقول أحد المقاتلين. ويضيف بحذر: «لن يكتفوا بالسمرا. نعرف ذلك. ودورنا هو منعهم». حلم المسلحين معروف: السيطرة على الشريط الساحلي حتى قرية «أم الطيور» التركمانية، أجمل قرى الساحل. مصدر ميداني مطلع على المنطقة، ينفي قدرة المسلحين على تشكيل بيئة حاضنة في المنطقة، لأنها، بعكس ربيعة وما حولها، تمثل خليطاً سكانياً. يتواصل المقاتلون في ما بينهم عبر أجهزة اتصالاتهم، للاطمئنان إلى وضع المعارك على طريق النبعين. الاشتباكات لا تهدأ، إنما قلة عدد سيارات الإسعاف أمس تهدئ من القلق. يسخر مقاتل آخر من الاشتباكات الدائرة بعنف، التي تتوقف ليلاً. ويقول: «نشعر بأن دوام المسلح يتوقف مساء، ويعاود مهمته بعد صلاة الفجر. في الليل نتنبه إلى محاولات التسلل فقط». يتوقف القنص ليلاً، ما يتيح إعداد بعض المفاجآت الليلية، ليأتي الصباح محمّلاً بالأخبار القاسية. هذه حال الجنود والسكان، على السواء، في المناطق المحاذية لنقاط التماس. محاولات عناصر الجيش التسلل، جوبهت بالكثير من رصاص القنص. لا يمكن اتباع وسائل خداع القناص بالقنابل الدخانية، بهدف تحقيق تقدم أكبر، إذ إن إطلاق النار العشوائي لا يتوقف. «مخازن ذخيرتهم مملوءة على الدوام. رصاصهم لا يتوقف» يقول المقاتل السوري. ويضيف: «لا تصدّقي أي كلام يتحدث عن انتهاء قريب للمعارك. التقدم الذي حققوه سندفع ثمنه أياماً طويلة. ووظيفتنا إجبارهم على الانكفاء. هذا سيحصل عاجلاً أم آجلاً، لكن يلزمه الكثير من الإعداد والإرادة، إذ لن يتحقق بعصا سحرية».