القاهرة | بعدما وصلت المفاوضات بين القاهرة وأديس أبابا إلى طريق مسدود بشأن أزمة «سد النهضة»، وطريقة تشغيل السد الضخم الذي استغرق بناؤه تسع سنوات، ترسّخ لدى مصر اقتناع مؤكد بأن إثيوبيا ستبدأ عملية تخزين المياه في بحيرة السد خلال موسم الفيضان الحالي، بقرار أحادي يجري العمل على مواجهته قانونياً وسياسياً، وآخر ذلك التوجه إلى مجلس الأمن. خطوة متأخرة بعد إخفاق الرهان على الولايات المتحدة في الضغط على الطرف الآخر، وهو رهان بدأ مبكراً العام الماضي مع الوساطة التي باشرها الرئيس دونالد ترامب، عقب إعلان فشل المفاوضات الثلاثية، لكنها أيضاً أخفقت بعد أربعة أشهر من التفاوض اشترت فيها إثيوبيا الوقت، ثم امتنعت عن التوقيع على ما تمّ التوصل إليه.مع ذلك، لا تزال الدولتان تعلّقان أملاً على واشنطن، كما برز في أحاديث وزيري خارجيّتيهما أخيراً إلى وكالة «أسوشييتد برس» الأميركية. لكن الوسيط مشغول بقضايا كثيرة أثّرت في دوره الدولي، ولذلك حاولت القاهرة طرق أبواب فرنسا بصفتها الرئيس الحالي لمجلس الأمن، كما تلقّى الأخير مخاطبات مباشرة من البلدان الثلاثة. ولذلك، ينظر المجلس عبر جلسات «الفيديو كونفراس» في المذكرات المقدمة، بعد جلسة غير رسمية جرت خلال الساعات الماضية، مع تأكيد الأطراف كافة الخيارات السلمية للحل. ويتطلب تمرير أي قرار من هذا النوع موافقة تسع دول على الأقل من بين أعضاء المجلس الخمسة عشر، على ألا يصدر اعتراض من الدول الخمس الدائمة العضوية.
وفق مصادر متابعة، تضمّنت الشكوى المصرية عرضاً لوجهة نظر القاهرة للأزمة وأبعادها، مع سرد السعي المصري للوصول إلى حل مقبول للأطراف الثلاثة على مدار تسع سنوات، فضلاً عن تقرير «لجنة الخبراء الدوليين» الصادر في أيار/مايو 2013، الذي أوصى بإعادة دراسات السلامة الإنشائية للسد إضافة إلى تداعياته على السودان ومصر، إلى جانب عرض اتفاقية إعلان المبادئ الموقّعة في آذار/مارس 2015 حين أقرّت التزام الدول بإنجاز الدراسات للاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله. ولذلك، ترى القاهرة، التي دعت إلى الجلسة العاجلة استناداً إلى المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، أنه من دون الدراسات البيئية والاقتصادية للتداعيات، سيكون من الصعب التوصل إلى قواعد التخزين والتشغيل الأمثل، خاصة أن أديس أبابا، وهي رئيس اللجنة الفنية للدول الثلاث، لم ترسل الملاحظات التي طلبت منها.
ومن المرفقات التي قدمتها مصر إلى مجلس الأمن، الاتفاقية الموقّعة بين ملك إثيوبيا المستقلة والحكومة البريطانية، والمتضمنة تعهّداً بعدم إقامة أيّ منشآت على النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط تؤثر في تدفقات المياه، إلى جانب الاتفاقية الإطارية بين الرئيس المصري الراحل حسني مبارك ورئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك ميليس زيناوي عام 1993، وتضمنت تعهداً بالتنسيق في ما يخصّ مياه النيل. وتؤكد التقارير أن الوضع المائي في إثيوبيا أفضل بكثير من مصر، إذ يسقط نحو ألف مليار متر مكعب سنوياً من الأمطار غلى جانب وجود 12 بحيرة عذبة يمكن استغلالها، لكنّ «الممارسات المائية السيّئة... تؤدي إلى هدر كميات كبيرة، على العكس من مصر التي تبلغ فيها كفاءة استخدام المياه نحو 75%».
تحاول كل من القاهرة وأديس أبابا استمالة الخرطوم في مذكرتها إلى المجلس


مشكلة مصر الكبرى أن النيل هو مصدرها شبه الوحيد للمياه، إذ يوفر النهر نحو 500 متر مكعب سنوياً للفرد، وهو أقل بكثير من حدّ الفقر المائي مقارنة بألف متر مكعب للمواطن الإثيوبي على أقل تقدير. كما فنّدت القاهرة المبررات الإثيوبية لملء بحيرة السد من دون موافقة دولتَي المصب، إذ تقول إن اتفاق المبادئ يسمح لها ببدء الملء منفردة، لأن استكمال البناء والتخزين من «أعمال السيادة». وبالنسبة إلى نتائج الوساطة الأميركية، تقول المصادر إن الوفد المصري أكد أن ما تمّ التوصل إليه يسمح للإثيوبيين بتوليد ما بين 75% و80% من كمية الكهرباء المخطط لها حتى في أسوأ حالات الجفاف، مع الأخذ بالاعتبار أن ما تضمنته الوثيقة بشأن التشغيل الأمثل للسد جاء بناءً على المقترح الإثيوبي نفسه، لكن «وثيقة واشنطن ليست لتقاسم المياه بل لقواعد ملء السد وتشغيله».
أما المذكرة الإثيوبية، التي قدمتها حكومة أديس أبابا، فجاءت في 78 صفحة، وضمت خطاباً من وزارة الخارجية مصحوباً بستة ملاحق ومذكرة تفسيرية، ضمّت نسخة من «إعلان المبادئ»، وأخرى من «اتفاقية عنتيبي» التي لم توقّع عليها مصر والسودان، ونسخة من الاحتجاج الإثيوبي على مفاوضات تقسيم الحصص المائية بين مصر والسودان في 1957، وصورة من احتجاج آخر على تنفيذ مصر مشروعاً لترعة السلام عام 1980 واتفاقات أخرى. وترى أديس أبابا أن مصر تحصل على «نصيب الأسد» من مياه النيل بموجب «صفقة باطلة وغير عادلة»، وهذا هو جوهر المسألة لا مسألة بناء السد، مع الانتقاد للسعي المصري لفرض المبادئ التوجيهية بما يمثل «لعنة» على مستقبل البلاد. كذلك، نسبت إثيوبيا «توقف المفاوضات»، وهو المصطلح الذي تستخدمه وليس فشلها كما تقول مصر، إلى «رغبة السودان في رفع ما جرى التوصل إليه إلى رؤساء الحكومات».
هكذا، تدافع أديس أبابا عن حقها في «استغلال المياه»، مظهرة أن جوهر الخلاف مرتبط بتقاسم المياه وليس بناء السد الذي «تحاول مصر تصويره بأنه يهدد السلم والأمن الدوليين»، إذ إن لدى القاهرة «من البداية نيّة في إحباط عملية التفاوض الثلاثية، ثم إعطاء الأولوية لإحالة المسألة على مجلس الأمن، متجاوزة جميع الآليات الإقليمية من أجل تدويل المفاوضات». وبشأن كون القضية تمثّل تهديداً للسلم والأمن والدوليين، قالت المذكرة الإثيوبية إن ذلك «يخالف الحقيقة، لأن مصر بنت السد العالي من دون استشارة إثيوبيا... (التي هي) على ثقة بأن مجلس الأمن سيرفض المطالب المصرية غير المبررة، التي تهدف إلى ضمان بقاء ترتيبات الحقبة الاستعمارية غير المتكافئة على النيل من دون تغيير».
وعلمت «الأخبار» أن مصر تحاول الضغط على السودان لتقديم مذكرة منه إلى مجلس الأمن تدعم موقفها، وهو ما تفعله أيضاً إثيوبيا بصورة غير مباشرة الآن، ما يجعل الخرطوم رمانة الميزان في الأزمة. وإذا لم يتضمن قرار مجلس الأمن حسماً للمسألة، وبدأت إثيوبيا ملء السد، فستكون مسألة المخاطر الجيولوجية قائمة أيضاً إلى جانب التفاوض حول آلية تخزين المياه الشهر المقبل، وهو ما يضغط كثيراً على صاحب القرار في القاهرة، المشغول أيضاً بملفات لا تقل أهمية عنده عن الأمن المائي.