رفح | أنتم الآن على حافة القارتين الكبيرتين: آسيا وأفريقيا، لا تستطيعون العبور إلى القارة السمراء؛ لأن حاجزاً للجيش المصري يمنعكم من الدخول، كذلك لا يمكنكم العودة إلى الشق المحاصر (غزة)؛ فبوابة معبر رفح أغلقت بأمر من المخابرات.
كانت كلمة «أنتم» موجهة إلى 64 فلسطينياً قرروا مغادرة قطاع غزة لأغراض متنوعة، كالعلاج أو الدراسة أو تجديد الإقامة في الخارج، والمتحدث هو منسق سفارة «دولة فلسطين» في جمهورية مصر العربية داخل أحد «باصات الترحيل» العالق بين الحاجز والمعبر.
هي قصة تكرر نفسها، وذات فصولها بدأت في أحد أَمْسيَة شباط الباردة، حين منح المصريون جرعة من التنفس الاصطناعي لغزة: ثلاثة أيام يفتح فيها المعبر. سجل للخروج 5000 آلاف يعلمون مسبقاً أنه لن يحق إلا لـ800 منهم الخروج فقط، فمن يفز في سباق الوصول يخرج، والباقون إلى «كشوف المرجعين».
جميلة هذه الكلمة «المرجعون»، لأنها تمنح أصحابها شعوراً بأنهم أصحاب أولوية في الخروج حين يفتح المعبر مرة أخرى (مرة كل أسبوعين على أقل تقدير). ويشاركهم هذا الشعور، بل يسبقهم فيه «حملة التنسيقات» الذين يدفعون مبالغ كبيرة لحساب ضباط في المخابرات المصرية حتى يضمنوا سفرهم.
هؤلاء ترسل المخابرات كشوفاً بأسمائهم إلى الجانب الفلسطيني الذي تمثله حكومة «حماس»، بل تشترط الأُولى لإدخال باصات المسافرين مرور أصحاب التنسيق قبل أو مع دخول الباصات، وبسيارات خاصة أحياناً، وإلا فسيغلق المعبر. متوسط المبلغ الذي يمكن دفعه من أجل التنسيق هو 1500 دولار للشخص بعد أن كان سابقاً (قبل عزل الرئيس محمد مرسي) لا يتجاوز 500 دولار، ومع حسبة بسيطة فإن يوماً وحيداً كفيل بأن يدخل للضباط المنسقين ما لا يقل عن 70 ألف دولار.
على «محشر رفح»، كما يتندّر المواطنون، إن لم تكن من حملة التنسيقات أو المرجعين، فأنت أمام خيارين: أن تُمنح إذناً بدخول مصر للإقامة أو «الترانزيت» 72 ساعة، وإما أن تنتظر 8 ساعات واقفاً على قدميك حتى يأتي دورك للترحيل إلى مطار القاهرة.
هذان الخياران - الدخول أو الترحيل - يأتيان بعد استثناء منعك أمنياً من السفر أو السجن لصعوبة نقلك إلى داخل مصر، وفق مصدر خاص.
معادلة صعبة فرضتها ظروف الحكم الجديدة في مصر ضد الفلسطينيين؛ فهي تصنفهم ضمن حساباتها السياسية وأجندتها الإعلامية «ضيوفاً غير مرغوب فيهم لتورطهم في أعمال إرهابية مع جماعة الإخوان المحظورة».
هكذا يدفع شعب بالجملة ضريبة اتجاهات سياسية اختارها «الحكم الإسلامي في غزة» الذي يحسب نفسه ضمن الامتداد الإخواني في المنطقة، أو إنها الحظوظ السيئة التي خلقت إعلاماً يهوى شيطنة الآخر.
حتى على الجانب الفلسطيني، قد تواجهك مشكلات معينة كأن تُوقف نصف ساعة لتراجَع سيرتك الذاتية لأنك متوجه إلى بيروت، فالعاصمة اللبنانية لا تزال جزءاً من المحور الصعب: طهران - دمشق - بيروت، والتوجه إليها لغير السياحة أو الدراسة لن يكون محموداً لدى «حماس» حالياً.
بعد التأكد من سلامة نية التوجه - فلسطينياً - عليك اختبار قدراتك في الركض؛ لأنه ـ مثلاً ـ قد تتجاوزك الحافلة التي تحمل حقائبك، فتجري مئتي متر في دقيقة حتى تصل البوابة المصرية الأولى.

هكذا يدفع شعب ضريبة اتجاهات سياسة «الحكم الإسلامي في غزة»


هناك يحبذ أن تلقي ساعتك جانباً، لأن وقت الفلسطيني عند المصريين ليس من معدن الذهب، بل من مشتقات الفعل «يذهب» من دون اعتبار لأي ظرف إنساني. أيضاً عليك أن تلقي مشاعر الكرامة جانباً، تماماً كالحقائب التي تُرمى على الأرض بعد مرورها على أجهزة الفحص.
يتكرر مشهد مشابه لما يكون على الحواجز الإسرائيلية: «اخلع قشاطك – حزامك – بسرعة وارمي فلوسك وجوالك على الطاولة وعدي من جهاز الفحص»، يصرخ ضابط مصري.
بالتأكيد، تحاول حين حزم أمتعتك للسفر ألا تنسى شيئاً، ولكن لن يخطر ببال كثيرين أنهم سيحتاجون أقلاماً على المعابر المصرية، فالنظام اليدوي القديم في التسجيل لا يزال معتمداً. رغم ذلك، يبقى «اليدوي» أفضل بكثير من شبكة الحواسيب التي تتعطل دون مبرر واضح، وهذا في حال حدوثه يعني إرجاع المسافرين مجدداً.
في كل الأحوال عليك أن تطيل صمود قدميك في الانتظار، ليس لفقدان الكراسي، بل لأن هناك مكانين متباعدين للمناداة على المسافرين: الأول غرف المخابرات، والثاني شبابيك المغادرة، ولا وجود لمكبرات صوت، فالنداء بالحناجر أفضل وسيلة لإظهار جدية الضباط وحدّتهم.
عدة جولات يمكنك أن تنتقل فيها بين المكانين، على أن تبقي عينيك على حقائبك كي لا تسرق، وعلى الأذن أن تكون هي الأخرى متيقظة؛ لأن المصريين يتقنون نطق الأسماء بـ«قرط» حرف أو اثنين من كل كلمة.
يتردد الواقفون في تأكيد حجوزات تذاكر طائراتهم أو شراء شريحة اتصال مصرية، لأنهم لا يعلمون مصيرهم: إلى الترحيل أو العودة أو الدخول؟ فقد تكرر كثيراً مشهد العناق والوداع لأولئك الذين منعتهم المخابرات من العبور، ويخاف الجميع أن يكونوا في اللحظة نفسها بعد دقائق.
حالة القلق تكبر، ولا سيما مع جهاز التشويش المصري الذي يقطع إرسال شبكة المحمول الفلسطينية داخل الصالة، ولا تزال الأسماء تُنادى بعصبية زائدة، ولا ساعة معلقة ضمن خدمات المعبر، حتى تنسى الوقت فعلاً.
مضت 7 ساعات طويلة. بدأت قلوب الواقفين ترجف خوفاً من الخيار الصعب. يأتي خبر مفاده إدخال 6 باصات فقط وإغلاق المعبر. من بعض النصائح الذهبية التي تتلقفها أذناك في حديث المسافرين أن هناك ضباطاً فلسطينيين من حكومة «حماس» يعملون على الجانب المصري، وما عليك إلا المراقبة جيداً.
يكفي أن يظهر زيّ مدني «مهندم»، ثم لهجة غزية ثقيلة. هذا هو الضابط. «هل أنت أبو حسن أم أبو إبراهيم أم أبو أسامة؟ هل أنت فلسطيني؟»، يجيب بكل هدوء: «نعم». كل الطلبات تتمحور حول الاطمئنان إلى مصير الجواز الذي غاب طويلاً، وبعد جولات من الحوار مع الضباط المصريين يطمئن الرجل المتأخرةَ عليهم «الباسبورات» إلى أنهم على «قيد باصات الترحيل».
يتنهد الواقفون بالتدريج، ويواسون أنفسهم: «أخفّ الضررين... ترحيل ولا الترجيع»، ثم يبدأون تجهيز أنفسهم لرحلة أكثر صعوبة: الجزء الأول منها 10 ساعات لعبور سيناء التي لا تستغرق قياسياً الساعات الخمس، والثاني يومان أو ثلاثة داخل غرفة الحجز في المطار.
لا يحمل الفلسطينيين على الصبر سوى استماع بعضهم لأوجاع بعض، بعدما يؤدون تعارفاً قصيراً وسريعاً، ثم يمارسون فنّ اختراع المبررات للسفر أو الهجرة، ولا بد أخيراً من الدعاء بأن تفرج الأوضاع قريباً.
لحظات ويأتي دور المرحلين. «انت، ليه رايح ع بيروت... للدراسة... هوّا في جامعات هناك؟... آه موجود... طيب روح اقعد»، تقف قليلاً ثم يسألك لم لمْ تجلس، فتجيبه: «شكراً». قابلها بصمت، لكن يبدو أن كلمة شكراً قد لا يفهمها ضابط تعوّد أن يكون «جلفاً» في وجه الفلسطينيين. يستعد الباص الذي خصصته السفارة الفلسطينية ويدفع تكلفته مواطنوها للترحيل، فتتهلل وجوه الحاضرين. يوقف انطلاقه أول حاجز للجيش المصري، ويدور حوار حتى نصف ساعة: الجيش يرفض مرور الحافلة تحت دعوى أن هناك حظراً للتجوال في سيناء، والفلسطيني يصرّ على إكمال الطريق على عاتقه. يقطع الحوار أصوات رصاص صوب الاثنين، فتعود الحافلة أدراجها نحو المعبر بحمولتها الزائدة والثقيلة أو المثقلة بخيبة الطريق. لكن البوابة لا تفتح، فإدارة المعبر ختمت الجوازات للخروج، ولا مجال للدخول مجدداً إلا بإذن من المخابرات.
«وقفوني ع الحدود»، هذه الدندنة التي تسمع على لسان الشباب داخل الباص رغم خوف الأطفال والنساء، لكن أصوات الرصاص عجّلت بالتنسيق لفتح البوابة، والعودة لقضاء ليلة باردة مخيفة في صالة الانتظار، دون ماء أو طعام أو اتصالات أو مكان للنوم، أو حتى مكان لقضاء الحاجة!
مع انتظار الصباح تسير الدقائق بطيئة، فجأة تحولت طاولة ضباط التحقيق إلى «كانتين» يبيعون فيه بعض الطعام والماء بـ5 أضعاف السعر الحقيقي. فعلاً يتقن هؤلاء الضباط تمثيل الجدية صباحاً وتحصيل الرزق مساءً، فهم الأقوى لأن في حوزتهم الجوازات وختم «مرجع».
قليلاً من الوقت وتخرج بعض «الصّوبات» للتدفئة وتكوين حلقات الأسئلة عن رأي المسافرين في «السيسي» وحماس والمصريين، ثم يفتح حمّام الضباط لقضاء الحاجة والوضوء، لكن بمقابل مالي.
مع انبلاج الفجر، تنتهي ليلة طويلة من البرد وحرمان النوم، لتنطلق الحافلة وتصل المطار عصراً، ثم ينزل المسافرون في غرف الترحيل حتى تحين مواعيد طائرتهم، ولا بد هناك من بعض الإكراميات للضباط حتى يتيسر خروج أحدهم سريعاً.




عودة بعد غياب

الفرحة الكبرى أن ترى جواز سفرك بعد غيابه يومين وهو في أيدي الضباط، ثم يأتي ختم الخروج بطريقة غير متوقعة، فمهمة الضابط المصري ومنسق السفارة الفلسطينية تنتهي مع صعودك إلى الطائرة، لذلك لن يكون أحدهما معنياً ببقائك طويلاً، ليس حباً فيك، بل تعجيل في الخلاص من وجودك في عهدتهما.
هنا في بيروت، لا يزال موظفو المطار يحتفظون بقليل من الابتسامة رغم سوداوية الأخبار القادمة من بلاد الأرز. هذه الابتسامات تعيد لك شعور المسافر الذي طار ساعة على مقاعد الدرجة السياحية يوماً ما.