أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أن بلاده لن تلجأ إلى الاستدانة من الخارج لتمويل الميزانية، وهو قرار يهدف رسمياً إلى «الحفاظ على سيادة الجزائر واستقلالية قرارها الاقتصادي»، وقال في الثالث من الشهر الجاري: «أفضّل أن أقترض من الجزائريين بدلاً من التوجه إلى صندوق النقد الدولي أو غيره من البنوك الأجنبية، لأننا إذا اقترضنا من البنوك الأجنبية، فلن يكون في وسعنا بعد ذلك الحديث عن فلسطين والصحراء الغربية، وهما قضيتان أساسيتان للجزائر». في الواقع، إن الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذا القرار لا يمكن فهمها إلا بالعودة إلى الماضي القريب، وما خلفته الاستعانة بالصندوق خلال التسعينيات من آثار سلبية عميقة.يذكّر عبد اللطيف رباح، الاقتصادي المتخصص في شؤون الطاقة، بالثمن الباهظ الذي دفعته البلاد عندما اضطرت إلى قبول الشروط الظالمة لـ«صندوق النقد» والبنك الدولي: «سعر برميل البترول سنة 1986 تراجع بنسبة 40%، ما يعني أن إيرادات تصدير النفط، التي تمثّل جزءاً رئيسياً من دخل البلاد، انخفضت من 12,72 مليار دولار في 1985 إلى 7,26 مليارات في 1986، مسجّلة تراجعاً بنسبة 43% خلال سنة واحدة». ويقول: «وازت خسائر هذه السنة نسبة 91% من إيرادات 1978! شهدنا في المدة نفسها، وعلى نطاق عالمي، ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الفائدة الأميركية، ما أدى إلى تضخم خدمة الدين في البلدان النامية. انهيار أسعار النفط بالتوازي مع ارتفاع أسعار الفائدة قاد إلى انتفاخ خدمة دين الجزائر بكل ما للكلمة من معنى. فهي قفزت من نسبة 35% من إيرادات التصدير سنة 1985 إلى 62,6% سنة 1986». هذا الوضع، يشرح رباح، سمح بتعزيز التوجه الليبرالي الذي اعتمده الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد منذ بداية الثمانينيات بحجة «أولوية تخفيف الضغط الاقتصادي الخارجي».
يُذكر أن أول اتفاق مع «النقد» تم توقيعه أواخر أيار/مايو 1989، في ظل تغييرات سياسية وإدارية في البلاد. ونصت شروط الاتفاق على «سياسة نقدية أكثر تقشفاً، والعلاج الكامل للعجز في الميزانية، واستمرار تخفيض سعر صرف العملة الوطنية (الدينار)، والسماح بمرونة في الأسعار»، كما تضمنت وصفات الصندوق «تجميداً للأجور وللتوظيف وضبطاً متشدداً للائتمانات». كذلك صدر قانون يمنع الخزينة العامة من تمويل مشاريع الاستثمار الجديدة للشركات الرسمية التي عزمت على بناء مساكن شعبية. وأيضاً تراجع الإنفاق على المعدات والتجهيزات من نسبة 12,4% من الناتج الداخلي الإجمالي سنة 1988 إلى 6,2% سنة 1991، ثم ازداد الضغط المالي الخارجي ومعه هبوط سعر برميل النفط: 24,2 دولاراً في 1990، و20 دولاراً في 1991، لينخفض في 1993 إلى 14 دولاراً، بعيداً من سعر الـ21 الذي كان متوقعاً.
أعلن الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أن بلاده لن تلجأ إلى الاستدانة من الخارج


هكذا، بلغت خدمة الدين نسبة 114% من إيرادات التصدير. فنهب «مرابو العصور الحديثة احتياطي العملة الصعبة في البلاد. ولسدّ دينها الخارجي، وقيمته 17 مليار دولار سنة 1985، دفعت الجزائر خلال الأعوام الثمانية التالية 61,1 مليار دولار، أي أكثر من ثلاثة أضعاف القيمة الأصلية لهذا الدين»، يقول الاقتصادي الجزائري. وهو يشير أيضاً إلى أن من سمات تلك الحقبة «تفكيك القطاع العام، وعمليات فصل من العمل على نطاق واسع، وبطالة مستشرية، وإفقار متعاظم، ولجوء تلقائي إلى القضاء في مواجهة الإضرابات العمالية وكذلك الإثراء الفاحش». ووفقاً لأرقام «صندوق النقد» أواخر كانون الأول/ديسمبر 1997، أغلقت 76 مؤسسة اقتصادية وطنية عامة، وفُصل 160000 عامل، ثم في نيسان/أبريل 1998 خُصخصت 827 مؤسسة عامة محلية أو أغلقت. أما وزير العمل في تلك المرحلة، حسن العسكري، فقال أمام «الجمعية الوطنية الشعبية» إن 637198 عاملاً تمّ فصلهم بين 1994 و1998، في حين أن الناتج القومي الإجمالي للفرد انتقل من 2800 دولار سنة 1985 إلى 1600 في 2000، مع تسجيل تراجع بنسبة 43%. وفوق ذلك، عكست مشاركة القطاعات في الناتج المحلي الإجمالي انخفاضاً في وزن الصناعة. والأخيرة بصفتها قاعدة النظام الإنتاجي والاقتصاد المستقل، تراجعت حصتها من الناتج الإجمالي باستمرار، فمن 13,1% سنة 1990 انحدرت إلى أقل من 6% سنة 2018.
الأرقام التي يقدمها رباح تدفعه إلى الاعتقاد بأن عملية التصحيح الهيكلي الواسعة النطاق انطلاقاً من وصفة «صندوق النقد» كانت «المحرك الصامت لإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي وتوزيع المصالح والصلاحيات والسلطات»، وهي أدت في الإجمال إلى «تعزيز موقع رأس المال في صناعة القرارات الاقتصادية، وتعاظم أرباح رجال الأعمال، كما زادت الامتيازات غير المشروعة وانفلات ناهبي الاقتصاد الوطني من أي ضوابط»، وكل ذلك فاقم الفوارق الاجتماعية وأضعف قدرة الجزائر على الرد على التهديدات الخارجية. أما اليوم، فتزداد صعوبة الوضع مع انهيار أسعار النفط، وهنا يذكر رباح أن إيرادات تصدير الطاقة التي انخفضت بنسبة 15% في 2019 ستنخفض بنسبة 37% هذا العام.
بالتوازي، سجلت ميزانية المدفوعات عجزاً بقيمة 18 مليار دولار سنة 2019. وإذا وصلت واردات 2020 إلى مستوى 2019، فسينخفض معدل تغطيتها من الصادرات من 82% إلى 49%. أما احتياطي العملة الصعبة، فهو في تراجع مستمر، والأزمة نفسها تنطبق على البطالة، إذ يتوقع «النقد» ارتفاعها من 11,4% السنة الماضية إلى 15% هذه السنة. يكمل الخبير: «الصفات الأبرز لسوق العمل هي معدلات بطالة عالية للشباب ومعدل ضعيف لعمل النساء واعتماد كبير على الاقتصاد الموازي لخلق فرص عمل. ويضاف إلى كعب أخيل الاقتصاد الجزائري الممثل في النفط عامل ضعف آخر هو القطاع الرأسمالي الخاص، الذي تضخم في التسعينيات على أنقاض إنجازات التنمية الوطنية التي دُمّرت تدريجياً منذ وصول الشاذلي إلى السلطة، فبقي على هامش الأنشطة الاقتصادية الحيوية»، موضحاً: «هذه الرأسمالية التي نشأت برعاية الدولة بقيت في طور الطفولة. المؤشر الواضح على هذا الأمر أن حصة القطاع الخاص تمثل 80% من الناتج المحلي غير النفطي لكن مساهمته الضريبية أقل من 1% من هذا الناتج!».
الخروج من الأزمة يقتضي في رأي الاقتصادي الجزائري اعتماد سياسات جديدة ورؤية للإصلاح البنيوي متوسطة وطويلة الأمد. «أموال القنوات غير الرسمية، أي الموجودة خارج النظام المصرفي التقليدي، تراوح قيمتها بحسب التقديرات ما بين 42,57 مليار يورو و71 ملياراً... الحكومة تريد اجتذاب هذا المال المكدس في أكياس بلاستيكية وفقاً للتعبير الرائج، عبر منظومة ضمانات وتسهيلات لمصلحة أصحاب الرساميل الموازية، لكننا نعلم أن المسألة لا تختزل في البعد المتعلق بالتمويل فقط، فهناك شروط أخرى ينبغي تأمينها، أولها بلورة رؤية طويلة الأمد تطمح إلى بناء اقتصاد منتج ومؤسسات متينة وكفوءة تكون بمنزلة القطب الذي يترجم هذا الطموح عملياً، ودولة تضمن التزام الأولويات الإنتاجية والبيئية، وأجهزة رقابة مستقلة، وحالة تعبئة ديموقراطية على المستوى السياسي والاجتماعي من أجل إنجاح مشروع التنمية الوطنية»، يختم رباح.