ربما كان سهلاً على الفلسطينيين حفظُ اسم جلعاد شاليط كونه الجندي الإسرائيلي الوحيد الذي استطاعت المقاومة «استضافته» (مقارنة بالمعاملة السيئة للفلسطينيين في سجون العدو) في قطاع غزة منذ بدء «انتفاضة الأقصى»، لكنهم اليوم لا يشغلون أنفسهم في حفظ أسماء أربعة إسرائيليين (أو أكثر) هم منذ نحو ست سنوات بحوزة حركة «حماس» التي تصرّ على أن تتعامل معهم كملف واحد في صفقة واحدة سيغلب هذه المرة اسمها الفلسطيني على الإسرائيلي (اشتهرت الصفقة الأخيرة باسم «صفقة شاليط» وكان اسمها فلسطينياً «وفاء الأحرار»)، فهل اقتربنا من قرع أبواب الزنازين؟قد يصحّ افتراض أن مرور ست سنوات على أسر هدار غولدين (برتبة ملازم ثانٍ وعلى قرابة مع وزير الأمن الأسبق موشيه يعلون) وأورون شاؤول (جندي من لواء النخبة) وأفيرا منغيستو (إثيوبي الأصل)، وخمس سنوات على أسر هشام السيد (من أصول عربية بدوية)، هي مدّة كافية لتحريك الملف مقارنة بخمسة أعوام كانت «الحكم» الذي قضاه جلعاد شاليط بين 2006 و2011. لكن هذا لا يلغي أنّ طريقة إدارة العدو لملف أسراه مختلفة هذه المرة، ومن نواحٍ عدّة. فمن البداية، سارع العدو إلى إعلان أن غولدين وشاؤول ميتان في سجلات الجيش، بل أقام لهما جنازة عسكرية رمزية بعدما فرض على حاخامات إعلان موتهما... ما لم يثبت ذلك، وهو ما يعني أن على المقاومة تأكيد أنهما، أو أحدهما، حيّ يُرزق قبل المطالبة بـ«ثمن» ضخم، وإلّا فإنّ الحديث يدور عن تبادل لجثتين، فيما كان نصيب منغيستو والسيد الإهمال والتعامل معهما بوصفهما مدنيين، بل نَشر أنهما لا يصلحان للخدمة العسكرية. أما قضية جمعة أبو غنيمة الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية ودخل غزة في تموز/ يوليو 2016، فليست واضحة بعد.
خلال السنتين الأخيرتين كانت المقاومة هي الأكثر مبادرة لحلحلة الملف، منذ عرض فيديو يشير إلى العدد المؤكّد لديها بالحدّ الأدنى (4)، مروراً بعرض أغنية بالعبرية وردت فيها رسالة مكتوبة بخط اليد في إشارة إلى أن أحد الجنود حي، ثم الحديث عن قصف مكان كان فيه الأسرى الإسرائيليون، أو بعضهم، خلال جولات المواجهة الصاروخية الأخيرة، دون توضيح تأثير ذلك في سلامتهم مع أن في ذلك تلميحاً إلى مسؤولية إسرائيلية عن حالتهم، وصولاً إلى مبادرة قائد «حماس» في غزة، يحيى السنوار، قبل نحو شهر، إلى عرض «معلومات محدّدة» مقابل الإفراج عن 250 أسيراً من فئات الأطفال وكبار السن والمرضى والنساء. المبادرة الأخيرة، التي جاءت في «زمن كورونا»، حرّكت الملف فعلياً بعدما لم ينجح أيّ من الوسطاء الذين صمد منهم المصري، مع وجود ألماني وسويسري إلى حدّ ما، في إقناع العدو بتقديم تنازلات على رأسها إطلاق محرّري «صفقة شاليط» الذين أُسر غالبيتهم مجدّداً سنة 2014. ومن هنا ظهر حقيقة أن الأكثر إلحاحاً لعقد الصفقة هي المقاومة، ليس بحكم أن هذا الملف من أولوياتها فحسب، بل لأن المقاربة الإسرائيلية تغيّرت.
في العموم، تختلف طريقة التعاطي الإسرائيلي مع حالات الأسر على يد فصائل داخل فلسطين، عن دول أو حركات مقاومة خارجها، كما تغيرت المقاربة في العقدين الأخيرين مقارنة بما قبلهما؛ تتبعٌ سريع لمجمل الصفقات العربية ــ الإسرائيلية، أو الفلسطينية ــ الإسرائيلية، منذ 1948، سواء في مبادلة الأسرى (الأحياء أو الأموات) أو الجواسيس، تظهر أن هذه الملفات كانت تُغلق في أقصر وقت ممكن، على عكس ما يحدث الآن. بل إن نقاشاً داخل قيادة السجون خلُص إلى أن إسرائيل، وإن كانت تعرف أنها ستدفع الثمن في النهاية، تفضّل إطالة أمد دفع الثمن كي لا يكون ذلك محفزاً على عمليات أسر متتالية. وكذلك الحال بالنسبة إلى التشدّد الأكثر في حال كان الآسرون من المقاومة الفلسطينية، مع الميل إلى تصفية الجنود كأولوية على تحريرهم.
تتواصل الفصائل الفلسطينية حالياً لتحديث قوائم الأسرى للصفقة


تقول مصادر مقربة من المقاومة ومطّلعة على ملف التبادل إن المعادلة الميدانية والسياسية حالياً تمنع المبادرة إلى زيادة رصيد المقاومة من الجنود الأسرى لأن ذلك سيدفع إلى حرب كبيرة، لكن «في أي مواجهة مقبلة، سنشهد تكتيكات مختلفة في الميدان من أجل أسر أكبر عدد من الجنود ولا سيما الضباط». تضيف المصادر: «ما حادثة التسلل الأخيرة في خانيونس وعملية حد السيف إلا نموذج صغير عما هو مقبل!». وفي إجابتها عن الفرق بين تجربة شاليط وملف الجنود الأربعة، تقول إن هناك اختلافات كثيرة على مستويات عدة أولها السياسي، إذ «ثمة خوف لدى القيادة الإسرائيلية من تكرار السيناريو السابق في صفقة مذلّة لمصلحة المقاومة، خاصة أن نتنياهو لم يسلم من الانتقادات ومنها أن غالبية العمليات التي جرت في الضفة المحتلة سببها الذين أُفرج عنهم، ولذلك ظهر تشدد أقوى مما مضى».
على ذكر الثمن، طلبت «حماس» هذه المرة الإفراج عن 250 أسيراً مقابل المعلومات، في حين أن العدو أفرج عن عشرين أسيرة فقط مقابل شريط فيديو عن شاليط في 2011، لكن عدد الأسرى المحررين في تلك الصفقة لمّا تمت (1027) كان الأكبر في تاريخ التبادلات منذ 1985 حينما أجرت إسرائيل تبادلاً مع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ــ القيادة العامة»: 1155 فلسطينياً مقابل ثمانية إسرائيليين، مع حفظ فارق المفرج عنهم لإسرائيل، وهو ما يعني أن «وفاء الأحرار» حقّقت رقماً قياسياً (كادت صفقة حزب الله في 2004 تقارب الأرقام الأولى: 893 فلسطينياً وعربياً مقابل إلهانان تاننباوم وثلاث جثث). والسؤال: ما الرقم الذي تطمح إليه «حماس» اليوم؟ مقابل قرابة 5000 هم إحصاء الأسرى الفلسطينيين حتى الشهر الماضي، تقول المصادر إن الحركة «لن تفرج عن أسير من الجنود الأربعة دون غيره، ولن تقبل تجزئة الملف، ولا إعطاء ثمن أقل لذوي الأصول الذين لا يهتم بهم الاحتلال»، مستدركة: «لا يمكننا إعطاء رقم محدد... بالمقارنة مع 250 أسيراً مقابل المعلومات، يمكن فهم الرقم الذي نريده... من المهم أن يدرك الاحتلال أن بقاء أسرى في السجون يعني عمليات أسر جديدة».
بالعودة إلى المقارنة مع تبادل 2011، تقول مصادر أمنية لـ«الأخبار» إن المتعارف عليه أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تبذل جهداً كبيراً للوصول إلى جنودها، لكن هذا لم يتكرّر في ملف الجنود، مضيفة: «تعاملهم هذه اختلف عن شاليط الذي حاولوا الوصول إليه بكل السبل وعبر العملاء، لكن هذه المرة عاشت الأجهزة الإسرائيلية حالة إحباط ولم تكرر الأساليب السابقة، إذ لم تعرض مبالغ كبيرة مقابل معلومات عن الجنود، ولم تُجرِ حملة اتصالات بالمواطنين للحصول على معلومات». ويُشار إلى أنّ المقاومة عرضت في 2016 (بعد خمس سنوات من إطلاق شاليط، وعقب 10 سنوات على تأسيس الوحدة المعنية) فيلماً عن «وحدة الظل» التابعة لـ«كتائب القسام»، التي كانت موكلة بحماية شاليط، وهو ما يعني حكماً تغيّر الأشخاص والأساليب في حماية الجنود الحاليين بغضّ النظر عن وضعهم في بداية الأسر.
من جهة أخرى، بدا نشاط عائلات الأسرى الإسرائيليين والإعلام العبري المتابع للقضية أعلى من نشاط حكومة العدو نفسها، خاصة أن الجيش عمد من البداية إلى التقليل من قيمة أسراه، بل حاولت تل أبيب تصدير الموضوع على أنه «إنساني» لا سياسي. وإذا ما اعتبر أن المياه الراكدة في الملف قد حُرّكت أخيراً، ومقارنة بالصفقة الأخيرة التي شهدت بالتوازي محاولات لقتل شاليط إلى جانب استمرار خطوط التفاوض، فإنّه في الحالة القائمة انطلقت المفاوضات متأخّرة كثيراً، بعد خمس سنوات وعقب إشارات متتالية من المقاومة. رغم هذا، تشدّد المصادر نفسها على أنّ شرط إطلاق المحرّرين الذين أُعيد اعتقالهم لا يزال قائماً، وأنّ المبادرة لم تلغِه، مشيرة إلى التواصل خلال الأسابيع الماضية مع الفصائل كافة لتحديث قوائم الأسرى المفترض العمل على إطلاق سراحهم في المراحل المتوقعة.
تبقى صعوبة أساسية تتعلق بطبيعة المعلومات المنوي تقديمها، وهنا يُطرح سؤال عن تكرار السيناريو الذي حدث مع «شريط شاليط»، ومدى صعوبة ممارسة المقاومة الفلسطينية لعبة «كشف المصير» كما حدث في لبنان قبل تبادل 2008. تجيب المصادر: «المقاومة لم تتحدّث أبداً عن مصير الجنود، كلّ ما أعلنته أنّ لديها أربعة جنود وهي تضع ثمناً للكشف عن مصيرهم... ما تحدّث عنه السنوار وجميع الفيديوات والصور تأتي ضمن الحرب النفسية... صحيح أن العدو يريد المماطلة حتى لا تصبح قضية خطف الجنود ظاهرة، لكن التعنّت له أسباب أخرى تتعلق بطبيعة تركيبة الحكومة السابقة التي كان يهدّد وزير الأمن فيها، نفتالي بينت، بأنه سينسحب منها وتنهار الحكومة في حال تمّت الصفقة»، وهو ما أعاد تكراره عقب التقارير الأخيرة عن تحرّك الملف، في مؤتمر عقده الأحد الماضي.



ماذا عن قانون «أصحاب المحكوميات العالية»؟
ضمن خطوات العدو لعرقلة إتمام الصفقة المقبلة، أو غيرها من الصفقات، ولتخفيض الثمن الواجب دفعه في حال لم يكن هناك مجال إلا للتبادل، صدّق الكنيست أواخر 2018 على قانون يحظر الإفراج المبكر أو تقصير محكومية الأسرى من أصحاب المحكوميات العالية، ممن حُكموا بالسجن المؤبد أو لأكثر من عشرين عاماً، وهؤلاء هم غالباً مدانون بقتل إسرائيليين أو الضلوع في عمليات قتل. بذلك، يصير الإفراج عن أسرى المؤبد يتطلب تعديل هذا القانون أو إلغاءه. كما أن «اللجنة الوزارية لشؤون الأسرى والمفقودين» سبق أن قررت أن يكون التبادل المقبل على قاعدة جندي بجندي وجثمان بجثمان.
أمّا المقاومة، وفق المصادر، فلا ترى أن هذا الموضوع يعيق إتمام الصفقة على ما تخطّط له، «لأنها مشكلة إسرائيلية داخلية على الاحتلال حلها بنفسه». وتقول: «يحاول الاحتلال فرض أمر واقع علينا بإطلاق سراح ذوي الأحكام القصيرة أو الأسرى الإداريين، لكننا نعلم من تاريخ التبادلات أن إسرائيل في وقت الضرورة، خاصة إن كان هناك أسرى أحياء، ستفرج عن العدد الذي نريده وبالمواصفات والأسماء التي نطلبها... يوجد ألف مخرج قانوني عليهم اختراعه لأننا لا نؤمن بقوانينهم ولا بوجودهم أصلاً». يذكر أن آخر إحصاءات «نادي الأسير الفلسطيني» قالت إنه ضمن الأسرى (5000) توجد 41 أسيرة و180 طفلاً وقاصراً و430 إدارياً وقرابة 700 مريض منهم 300 لديهم «حالات مرضية مزمنة وبحاجة إلى علاج مستمر».


«حماس» تنفي تسريبات الإعلام العبري
ضمن سلسلة من التسريبات الإعلامية العبرية، نقلت القناة الـ12 في التلفزيون الإسرائيلي عن مصادر فلسطينية، أمس، أن وفداً من «حماس» سيتوجه نهاية الأسبوع الجاري إلى القاهرة، للاجتماع بالمخابرات العامة المصرية من أجل مناقشة صفقة التبادل مع إسرائيل. لكن الحركة أصدرت تصريحاً صحافياً قالت فيه إنه «في ظل حالة الضخ الإعلامي التي يمارسها المستوى السياسي الصهيوني وإعلامه الموجّه، نؤكد عدم وجود تقدم نوعي في مفاوضات التبادل عبر الوسطاء مع الاحتلال»، مضيفة: «يهدف الاحتلال من هذه الحملة إلى التملص من استحقاقات المبادرة التي طرحتها الحركة، ولتضليل عائلات الأسرى الصهاينة، وللضغط على معنويات الأسرى الفلسطينيين وعوائلهم».
(الأخبار)