تعلّقت عينا سناء أبو عوّاد، والدة الأسير يزن مغامس، بالحَجَر «التذكاري» الذي بقي لها من أنقاض منزلها. حملت بيدها قطعة من بلاط الأرضية وأخرى من رخام المطبخ، تماماً كما فعلت عائلة زوجها بمفتاح منزلهم الذي هجّروا عنه، في قرية الحدّيثة، شمال مدينة الرملة عام 1948. لم يبقَ لها من المنزل الذي هدمه الاحتلال سوى الركام. تقول أبو عوّاد: «في مثل هذا الوقت، كان منزلنا الأمثل في العزل والحماية، فهو مُستقل، وتُحيطه قطعة مخضرّة، كضحكةِ ابني يزن، مزروعة بالزيتون واللوز والليمون. أفكر في شجرة الليمون: ربما كانت ذخيرتنا في مقاومة كورونا، ومُستودعنا لمزيد من فيتامين سي الذي يقولون إنه يقوّي المناعة».
والدة الأسير مغامس: مشهد هدم المنزل سيبقى حيّاً في ذاكرتي (من الويب)

كأنه لم يكفِ سناء وعائلتها تهجير واحد، ففي الخامس من آذار/مارس الماضي، هدّمت جرافات الاحتلال منزل ذوي الأسير مغامس في بلدة بيرزيت، ورفيقه وليد حانتشة في قلب حيّ الطيرة برام الله، وسط الضفة المحتلة، بذريعة ضُلوعهما في تفجير عبوة ناسفة في عين بوبين قرب مستوطنة «دوليف»، في آب/أغسطس الماضي. وبينما يجتاح كورونا العالم وتوصي الحكومات شعوبها بلزوم منازلهم، يُخطر الاحتلال يومياً أهالي الأسرى الآخرين بهدم منازلهم، وبعدما لم يتبقّ لهؤلاء بيوت، اضطروا إلى الانتقال إلى مساكن مؤقتة.
عائلات الشهداء والأسرى، مثل والدة يزن، يجدون أنفسهم عالقين بين أمرّين: يعانون الفقد، وشهدوا بين ليلة وضحاها تغريبة أخرى. وضعٌ جعلهم يسألون عن أصل الحكاية: بيتهم ما قبل النكبة في الرّملة، أم منزلهم الذي عاشوا فيه أكثر من عشرين عاماً في بيرزيت؟ تجيب سناء: «هو تَنَقّلٌ بين المَنافي... تساؤل يعيدنا إلى فلسطين كلها». صحيح أن بيت الرّملة كان يعيش في ذاكرتهم التي يغذّونها بالصور والقصص، غير أن لمنزلهم في بيرزيت قصة مختلفة، فهو كما تسميه سناء «فراولة الذاكرة، له مذاقٌ حلو حامض» بعدما شهد أفراحهم وأتراحهم. تضيف: «مشهد سقوط المنزل سيبقى حيّاً في ذاكرتي. حياتنا قبل الهدم ليست كما بعده. أشعر أنني طريدة برغم استئجارنا منزلاً آخر في مكان قريب». تتابع أم يزن بضحكة: «أتعلمين؟ هذا المطبخ ليس لي».
يُخطرُ الاحتلال يومياً بهدم منازل في وقت يجتاح فيه «كورونا» العالم


هدم منزل الأسير يزن يمكن وضعه ضمن الأفعال التي يريد الاحتلال بها نهش ذاكرة الفلسطيني وتحطيم نموذج الأمن والحماية لديه، وهو ما يجعل التفاعل مع الأمكنة الجديدة لذوي الأسرى أمراً يثقل بالذكريات من جهة، ومن جهة ثانية يجعلهم يترنّحون في أزمة هوية دائمة وعلاقة مضطربة مع ذواتهم. مع ذلك، ثمة ما يقلق سناء أكثر من هذا المنزل المؤقت والتأقلم فيه، والتزامه في ظل تفشي كورونا في الضفة؛ هي كما أهالي أسرى كُثر تفكر في ابنها مع 5500 أسير وأسيرة قد يتعرضون للإصابة بالفيروس بمجرد الاحتكاك بسجّان يحمله. وبينما لا توفر سلطات الاحتلال أدنى المقوّمات للوقاية، يقبع الأسرى والأسيرات مكدّسين في غرف ضيقة، كل ثمانية في غرفة، فيما يصل عددهم في القسم الواحد إلى أكثر من 120، يتنفّسون الهواء نفسه، ويتشاركون الأكل والملبس...
تفكر والدة يزن في ذلك: «هل سيتحمل جسد الأسير أو الأسيرة فتكاً آخر غير التعذيب؟ هل ستتحمل أجسادهم المتهالكة أصلاً فيروساً يقتحم خلاياهم الضعيفة ورئاتهم التّعبة التي تتنفس رطوبة الزنازين وغاز الاقتحامات؟ هل ستصمد أمعاؤهم التي اعتادت الإضرابات وأن تكون خاوية؟ غير الروماتيزم الذي ينخر مفاصلهم»، ثم «ماذا عن الأسرى الذين ينهشهم السرطان ولا يتلقون العلاج، أو من يسكّنون آلامهم وأنّاتهم بحبة اسبرين!»؛ إن مجرد عطسة أو سعلة من سجّان ستكلفهم حياتهم. قد ينحسر الفيروس وتستمر الإنسانية من بعده، لكن العالم يستحيل أن يظل كما عهدناه سابقاً. تقول أبو عواد: «لا بدّ أن نستحضر ذلك العالم الذي روى عنه غسان كنفاني في قصة عالم ليس لنا، وأظنها فرصة لمن هم الآن في بيوتهم ومع أطفالهم أن يقرؤوا لأبنائهم كيف ولماذا رفض حسّون قفصه، ولماذا رفض التأقلم مع جدران الحديد».