ماهر منصورحين ارتفع صوت القصف وهزت ارتدادات صداه جسدي، أدركت أنني لم أعد في رحم أمي، وأن هناك من قطع حبل السرة بيني وبينها، ليزيد عدد اللاجئين في مخيم تل الزعتر واحداً، هو أنا.
وقتها قالوا لي: لم تصرخ كما المواليد الجدد، منهم من قال: بلى صرخت، لكن صوت القصف كان أعلى...لكن ما أحد جزم بشيء إلا بأن صوت أمي يعاتب من قطع حبل السرة بيني وبينها، كان الأعلى: ليتكم تركتم حبل السرة بيننا، لأتركه في رحمي، آمناً مطمئناً من نار هذا القصف.

بعد سبعة وثلاثين عاماً كان سلك الهاتف ينوب عن حبل السرة بيني وبين أمي الحاجة عزيزة العلي...وكانت أمي لم تزل تردد العبارة ذاتها: «ليتني تركتك في رحم بطني لأنام آمنة ومطمئنة»، فهذا العابث الشقي أنا، لم يكن منذ ولدته يكف عن الحضور تحت القصف.
تحت النار بالملجأ هناك، في تل الزعتر، كان علي أن اكتشف معنى أن أكون لاجئاً، وفي الطريق نحو دمشق هرباً من الموت المؤكد في تل الزعتر عرفت معنى ثانياً للجوء، وحين بلغت مخيم اليرموك اختبرت معنى جديداً للجوء أيضاً.. بعده وفي أماكن عديدة، كان اللجوء يضعني أينما توجهت أمام سؤال الهوية، فيلفظني المكان مع وثيقتي، وحده رحم الفلسطينية أمي كان وطناً لا يتركني على أبوابه مصلوباً بتهمة الانتماء. أكبرُ وأكبرُ ويبقى رحم أمي لي، ابتعد ويظل الرحم لي.. معه كان كل شيء لي.. وبدونه كان اللجوء يذكرني أن لا شيء لي...هي فضيلة واحدة للجوء يا أمي حين قلب المعادلة، فصرت الدائم في رحمك، كما كنت تتمنين، وقد خلقني الله فيه مؤقتاً لتسعة أشهر. أن تكون أبناً لأم فلسطينية، يعني أن تبقي حبل السرة بينك وبينها، حتى لو قطعته القابلة.
أن تكون أبناً لأم فلسطينية يعني أن لا تعتاد الغياب أبداً، فمن يولد لاجئاً يترك وطنه في رحم أمه، وبعيداً عنها سيظل الغريب.
أن تكون أبناً لأم فلسطينية يعني ألا تصرخ يوم تولد ليسمع الناس صوتها، فالناس لن يسمعوا سوى زغاريدها إن استشهدت.
تقول أمي: لا تصدق زغاريد الأمهات يا ولدي في وداع أبنائهن الشهداء، فأنتم لا تعرفون كيف يكون دمع الأمهات الفلسطينيات، وكيف يكون حزنهن... هن يكبرن على الجرح لا يردمنه بالفرح، ومن يعرفهن يعرف كيف يسمع نحيبهن وسط الزغاريد.
أمي علمتني كيف أن سنوات اللجوء منحت الأمهات الفلسطينيات صلابة من نسغ الحياة لا قسوتها، فهن لم يفقدن من حنانهن شيئاً، ومثل كل الأمهات الفسطينيات كانت أمي.
منذ سنوات طفولتها الأولى اختبرت أمي اللجوء، كانت قد مشت في رحلة لجوء قسرية من بلدتها في سهل الحولة في فلسطين إلى غوطة مدينة دمشق الشرقية، ثم غادرتها، لاجئة وعروساً، إلى مخيم تل الزعتر، وغادرته بعد سنوات إلى مخيم اليرموك لاجئة وأماً... في كل مرة كانت أمي ترفع الخيمة تلو الخيمة، وخيمة الفلسطيني، لمن لا يعرف، كان دائماً عمودها الرئيسي امرأة، هي الأم.
أمي التي خذلتها بعد كل تلك السنوات قدماها، وهي تخرج من مخيم اليرموك منذ نحو عام، قالت لي: لا ينفع أن أكون عموداً في خيمتين، وخيمة في المخيم تفرق عن خيمة في سواه، في الأولى أنت على مرمى مسافة من فلسطين، وفي الثانية أنت على مرمى المسافة ذاتها من الخيمة الأولى لا من فلسطين. أن تكون أبناً لأم فلسطينية يعني أن تعرف أنك تحتمي في ظل خيمة راسخة، خيمة تجعل فلسطين أقرب إليك من حبل الوريد.
تتشابه الأمهات الفلسطينيات، كما لو أنهن خرجن من رحم واحد، شقراوات كن أم سمراوات، تحس أن لقلوبهن نبضا واحدا، أقله حين يتكلمن في السياسة، والسياسة خبز الأمهات الفلسطينيات اليومي، أكبر وأكبر وأجد أمي وجارتها على الحال ذاته، تجمعهما نشرات الأخبار وتفاصيل ما يحدث في فلسطين.
أقول ممازحاً لهما: تتكلمان في السياسة..؟!
فأسمع جارتنا تقول: «أستغفر الله يا خالتي، السياسة بتفوت ع السجن، نحنا بنحكي عن فلسطين».
أمي الفلسطينية مثل جارتها، تجزم بأن الحديث عن فلسطين ليس حديثاً في السياسة.. هما منذ خرجتا من مخيم اليرموك العام الفائت لم تجتمعا ولم تتكلما عن فلسطين، لكنهما منذ ذلك الوقت تسرقان دقائق الهاتف بينهما لتتكلما عن المخيم.
أقول لأمي: عدتما للحديث في السياسة..؟
تقول أمي: نتكلم عن المخيم.. «المخيم مش سياسة».
أمي، مثل جاراتها الفلسطينيات، تصرّ على الفارق بين فلسطين والسياسة، ذلك لأن الأخيرة تتقلب على نيران المصالح، وقناعتهن بفلسطين ثابتة.
أن تكون أبناً لأم فلسطينية، يعني أن تؤمن بأن الحديث عن فلسطين..وعن مخيم اليرموك أيضاً، ليس حديثاً في السياسة.
أن تكون أبناً لأم فلسطينية، مثل أمي، يعني أن تقبض، وأنت اللاجئ، بيديك على الوطن البسيط، وطن يعبق بأناس طيبين ورائحة القهوة والحب.