أدى التفشّي المتعاظم لوباء الكورونا وما يثيره من هلع على نطاق عالمي إلى إحياء الدعوات والآمال بضرورة التعاون بين جميع الدول والشعوب لمواجهته حرصاً على مصير «الإنسانية جمعاء». لكن من ينظر إلى كيفية تعامل الإدارة الأميركية مع هذا الملف وحده، بمعزل عن جميع سياساتها الأخرى، وإلى ما كشفته يومية «داي فيلت» الألمانية عن سعيها إلى اجتذاب علماء ألمان يعملون على إنتاج لقاح ضد الكورونا، عبر تقديم إغراءات مالية سخية، لكي تحصل بلادهم على ملكيته الحصرية، يدرك أن مثل هذه الدعوات للتعاون مع إمبراطورية عاتية كالولايات المتحدة تقودها اليوم زمرة شبه فاشية تساهم في ترويج الأوهام ومنع فهم الطبيعة الحقيقية للصراعات الدائرة في العالم. اعتقدت الولايات المتحدة عند بداية تفشي الفيروس في الصين، ثم في إيران، أنها تستطيع البقاء بمنأى عنه واستغلال الأمر سياسياً ضد نظامي البلدين، لكن تحوله إلى وباء، وتداعيات ذلك اقتصادياً ومالياً عليها، إضافة إلى مفاعيل انهيار أسعار النفط، عوامل تضعها ضمن قائمة المتضرّرين الكبار من مجمل هذه التطورات. ستكون لهذه الوقائع انعكاسات فعلية على السياسات العدوانية التي تعتمدها هذه الإدارة حيال عدد من البلدان، وفي مقدمتها العراق الذي أبقت فيه على وجود عسكري احتلالي يخوض حرباً فعلية ضد قواه الوطنية الرافضة لهذا الوجود. الخبر السار لهذه القوى أن الولايات المتحدة، نتيجة للوقائع المذكورة، ستكون أضعف، وأن قدرتها على احتمال معركة استنزاف ضد قواتها ستصير أقل. الخبر السار الآخر أن قوى إقليمية ودولية كإيران وروسيا والصين تخوض مواجهات تتفاوت حدتها مع الولايات المتحدة لها مصلحة في أن تخرج الأخيرة مهزومة من العراق. الحرب في زمن الكورونا لن تكون كما قبله، والعراقيون أمام فرصة تاريخية لتحرير بلاد الرافدين من رجس الاحتلال.
تحاول الإدارة الأميركية باستمرار، عبر مواقفها وقراراتها الخاصة بالوضع في العراق، إشاعة انطباع داخل بلدها وعلى صعيد عالمي أنها استعادت قدرتها «الرادعة» وهيبتها، بعد اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، وأنها نجحت في فرض قواعد لعبة جديدة على القوى الوطنية العراقية المناهضة للاحتلال أولاً، وعلى أطراف محور المقاومة الأخرى ثانياً. هي مدركة طبعاً أن هذا الانطباع غير مطابق للوقائع بتاتاً، وأن سلسلة الردود التي بدأت بعد القصف الإيراني لقاعدة «عين الأسد»، وما تلاه من عمليات آخرها قصف معسكر التاجي للمرة الثانية، مرشحة للتواصل في الأسابيع والأشهر المقبلة. لكن بما أن السياسة في «الديمقراطيات العريقة» هي لدرجة كبيرة فنّ استعراضي محكوم بالحسابات الانتخابية، أمرت إدارة دونالد ترامب قواتها المحتلة بقصف مجموعة أهداف مدنية وعسكرية رسمية عراقية وأخرى لفصائل المقاومة، في محاولة لتثبيت فكرة أنها صاحبة اليد الطولى في المعركة الدائرة في العراق. غير أن استمرار الهجمات ضد قواتها وإمكانية تصاعدها يشكلان هاجساً فعلياً للرئيس الأميركي الساعي قبل أي هدف آخر، مهما كانت أهميته الجيوسياسية أو الجيواقتصادية، إلى تأمين شروط إعادة انتخابه.
أقل ما يمكن أن يقال في الظروف الحالية هو أن المستجدّات الأخيرة ليست لمصلحته بتاتاً، ولا لمصلحة بلاده. ففي مقالة على موقع «ذي ناشيونال أنترست»، يرى العقيد المتقاعد في الجيش الأميركي والخبير العسكري دانييل دايفيس أن بلاده قد تواجه أزمة اقتصادية يمكن أن تتسبب في ركود كبير نتيجة لتفشي كورونا، كما يتوقع أن ينجم عن هذا التفشي اضطراب اجتماعي خطير وأن تضطر واشنطن في نهاية المطاف إلى عزل ولايات أو جماعات (لا يحدد هويتها لكنه يقصد غالباً الأقليات كالأفارقة الأميركيين أو السكان الذين تعود أصولهم إلى بلدان أميركا اللاتينية) بأكملها. ويشير دايفيس إلى دراسة أعدها فريق من الباحثين من الجامعة الأسترالية توضح أن الأكلاف البشرية والاقتصادية لتفشي الفيروس في الولايات المتحدة ستكون باهظة، فعدد الوفيات بسببه قد يصل إلى 236000 هذه السنة، والخسائر الاقتصادية والمالية إلى 1,7 تريليون دولار. لكن ما سيضاعف قوة هذه الأزمة المتوقعة هو اختيار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هذا التوقيت لبدء ما أضحى يسمى «حرب أسعار النفط»، أي قراره بزيادة إنتاجه وتخفيض سعره، وهو ما يمثل تهديداً شبه وجودي لصناعة النفط الصخري الأميركية الباهظة.
وفي مقالة بعنوان «حروب النفط الجديدة قد تهدد حظوظ إعادة انتخاب ترامب» على موقع مجلة «رولينغ ستون»، ذكر جيف غوديل أن عضو مجلس الشيوخ ليندسي غراهام قال لترامب وفريقه إن الروس يسعون إلى «كسر العمود الفقري لصناعة النفط الصخري». ويرى غوديل أن «مفاعيل حرب بوتين النفطية يصعب توقعها بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي وكذلك إلى العمال الأميركيين والوضع السياسي الداخلي». قد يشكل الأمر نهاية لآمال ترامب الانتخابية في نهاية هذا العام؛ الهبوط الحاد في أسعار الأسهم ووباء الكورونا كارثيان بما يكفي. وإذا أضيف إليهما غياب دعم الناخبين في ولايات تعتمد على النفط الصخري، كبنسيلفانيا، فإن «حظوظ ترامب بإعادة الانتخاب ستكون معدومة». وما سيزيد قتامة المشهد على ترامب والناخبين الأميركيين هو مشاهدة نعوش الجنود الأميركيين العائدة من العراق، البلد الذي نكبته الولايات المتحدة بحروبها المستمرة عليه. من الأرجح ألّا يحتمل الرئيس المهووس بولاية ثانية هذا الوضع وأن يأخذ قرار الانسحاب؛ العراقيون أمام فرصة تاريخية رغم ويلات كورونا.