مرة أخرى يلعب تاريخ الخامس عشر من آذار/مارس دوراً مفصليّاً في الملف السوري. تحلّ «الذكرى» السنويّة لاندلاع شرارة الأحداث السورية المستمرة منذ تسع سنوات، بعد أيام، و«يُصادف» أنها اختيرت موعداً لبدء تطبيق بندٍ مهم من بنود «اتفاق موسكو» الخاص بإدلب، وهو فتح الطريق الدولي حلب ــــ اللاذقية (M4)، وتسيير دوريات مشتركة، روسية ـــ تركية، على امتداده. وأمس بدأت الجهات الحكوميّة السورية أعمال التمهيد الفنيّة على الطريق من جهة اللاذقية، تمهيداً لوضعه في الخدمة، فيما أفصح وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، عن تفصيل «تقنيّ» لم يرد نصّاً في الاتفاق، مع أنه كان متوقّعاً، إذ قال، خلال مشاركته في اجتماع لمحرري وكالة «الأناضول» التركية، إنّ «جنوب M4 سيخضع للرقابة الروسية، وشماله لرقابتنا». وكما بات معروفاً، نصّ «موسكو» على إنشاء ممر أمني بعمق ستة كيلومترات جنوبي الطريق، وستة أخرى شماليّه. تشكل الإيضاحات التركيّة إقراراً بوجوب انسحاب المجموعات المسلّحة من كامل المناطق الخاضعة لسيطرتها جنوبي الطريق. فضلاً عن ذلك، يُرجّح أن التفاصيل غير المعلنة قد تتضمّن عودة مؤسسات الدولة السورية تدريجياً إلى ثلاث مناطق شديدة الأهمية، هي: مدينة أريحا، وقرية محمبل، ومدينة جسر الشغور، وجميعها على الأوتوستراد، مع وجوب انسحاب المجموعات من نقاط شديدة الأهمية، مثل مرتفعات كبانة، الواقعة جنوبي الطريق، وجبل الزاوية.يبدو أن بعض الجهات السورية المعارضة فوجئت بتصريحات أوغلو، وبالأجواء «الإيجابية» التي توحي بجديّة الأطراف في تطبيق الاتفاق، إذ صدر، عقب تصريحات الوزير التركي بساعات، بيان موقع باسم «نشطاء منطقة إدلب المحررة»، يعلن «رفضاً قاطعاً لتسليم أي منطقة محررة للنظام وروسيا بموجب أي اتفاق»، ويطالب «الجانب التركي بدعم الفصائل المقاتلة لاستعادة ما تم احتلاله». في واقع الأمر، لا يشكل البيان بحدّ ذاته عقبة لا يمكن تجاوزها، غير أنّه ينضم إلى جملة تعقيدات تجعلُ الرهان على تنفيذ الاتفاق في غضون الأيام القليلة المتبقية ضرباً من المغامرة. تأتي على رأس تلك التعقيدات غلبة العنصر «الجهادي» في عدد من المناطق المهمة التي أشير إليها، واستعداد تلك المجموعات لخوض جولة جديدة من المعارك (راجع العدد أمس). ويشكّل فتح الطريق الدولي إذا تم، عقب فتح نظيره حلب ــــ دمشق (M5)، تحوّلاً مهماً في خريطة الحرب السورية، سواء من الناحية العسكرية أم الناحيتين الاقتصادية والسياسية. وإذا ما طُبّقت الخطوات المتفق عليها بالفعل، فإن سيطرة المجموعات المسلحة على الشرايين الاقتصادية في الشمال الغربي ستقتصر بدءاً من النصف الثاني من الشهر الجاري على معبرين حدوديين مع تركيا، هما: باب الهوى وباب السلامة، فيما تتخفّف الدولة السورية من معظم العوائق التي قيّدت النقل البري بشقّيه التجاري والمدني، لسنوات طويلة.
لا تعني التطورات السياسية المتسارعة أن فتائل اشتعال الشمال نُزعت بالكامل


رغم استمرار بعض العقبات في وجه النقل البري مع دول الجوار، فإنّ حالة الحصار التام التي كانت مهيمنة قبل سنوات قد تخلخلت إلى حدّ كبير، إذ تسيطر دمشق على معابر مع جميع دول الجوار (بما فيها تركيا: معبر كسب). ومن المنتظر أن يلعب معبر نصيب مع الأردن دوراً شديد الحيوية في المراحل المقبلة. وسُجل على هذا الصعيد تطور مهم قبل أيام، عبر زيارة وزير الصناعة والتجارة الأردني، طارق الحموري، لدمشق، حيث وصف زيارته الرسمية بـ«الناجحة»، قائلاً إنها «ساعدت في وضع أطر عامة للحوار حول التبادل التجاري بين الدولتين». لا تقتصر أهمية هذه التفاصيل على الجانب الاقتصادي، بل تبدو ذات أهمية سياسية في الدرجة الأولى، لكن من المستبعد قيام عمّان بخطوات انفتاحية تجاه دمشق، من دون التنسيق المسبق مع عدد من الدول الفعالة، عربيّاً ودوليّاً. خلال الأسابيع الأخيرة، بدأت ملامح تشكل «حلف جنوبي» عربي بالتبلور، تلعب دمشق دوراً محوريّاً فيه. وكانت «الأخبار» قد نشرت منتصف الشهر الماضي معلومات عن مبادرة إماراتيّة لإعادة ترتيب علاقات سوريا بمحيطها العربي.
كذلك، شكّل افتتاح سفارة ليبية في دمشق (تابعة لحكومة حفتر)، قبل أيام، مناسبة لاختبار لهجة سورية جديدة تجاه الدول العربيّة بالعموم. ومن المسلَّم به أن اكتمال أي مبادرة من هذا النوع يظلّ رهناً بقبول أميركي، وجملة تداخلات دولية وإقليمية (مثلاً ليس من المعروف بعد ما هو الأثر الذي قد تلعبه الأزمة المستجدة بين موسكو والرياض في شأن أسعار النفط، ضمن تلك المبادرة).
لفهم معطيات المرحلة المقبلة، ينبغي أيضاً مراقبة تطورات ملف «اللجنة الدستورية»، إذ سيكون انعقاد جولة جديدة لها مؤشّراً شديد الأهميّة. وكان من المفترض أن تنعقد الجولة الثالثة للمجموعة المصغّرة المنبثقة عن «الدستورية» مطلع الشهر الجاري، قبل أن يؤدي استعصاء ملف إدلب إلى إرجائها. ونقلت صحيفة «الوطن» السورية أمس، عن مصادر دبلوماسية سورية، أن «الأمم المتحدة اقترحت 22 آذار/مارس موعداً لانطلاق الجولة»، فيما تؤكد مصادر مواكبة لعمل اللجنة، في حديث إلى «الأخبار»، أن الحديث يدور عمّا بين 20 و25 من الشهر الجاري، لعودة أعضاء «المصغّرة» إلى جنيف، ما لم تؤدِّ الاحتياطات المتعلقة بـ«كورونا» إلى إرجائها حتى موعد غير معلوم. لكن، لا يعني كل ما تقدّم أن فتائل اشتعال الميدان في الشمال قد نُزعت بالكامل، ولا سيّما أن أنقرة لم تتوقف عن إرسال مزيد من الأرتال العسكرية إلى إدلب. وتتباين الآراء حول المرامي التركية من مواصلة التحشيد، إذ يردّها بعض التحليلات إلى أسباب داخلية ترتبط بعمل أنقرة على تشتيت وحدات النخبة العسكرية، في ظل مخاوف الرئيس رجب طيب اردوغان من تحركات انقلابية جديدة، إلى جانب محاولات «شد العصب الداخلي»، ومحاولة توحيد موقف الأتراك بذريعة المخاطر الخارجية، فيما تربط آراء أخرى بين هذه التحركات ومساع إلى تكريس الوجود التركي في الشمال السوري، وتحويل احتلال مناطق واسعة منه إلى أمر واقع.