كانت أمام مصر فرصتان للحلّ بين عامي 2012 و2014 لكن القاهرة لم تستغلّهما
بالنتيجة، لم تستفد الدولة المصرية، عبر أنظمتها المتعاقبة، من الظروف التي أجّلت بناء السدّ أو تَسبّبت في تأخيره، في الوقت الذي كان فيه المفاوض الإثيوبي ينجح في تسكيت المصريين بالحديث عن تجنّب الإضرار بمصالح مصر المائية. لكن السيسي تحديداً، على مدار سِتّ سنوات في الحكم، تعامل مع القضية باستهانة واستخفاف، بل انصاع للإرادة الإثيوبية كثيراً، ليكتفي - في مشهد كاريكاتوري - بِقَسَمِ رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ألّا يضرّ بمصر ومصالحها المائية، وذلك أمام عدسات المصوّرين في قصر الاتحادية صيف 2018، حيث لقّنه السيسي القَسَم بالعربية التي لا يتكلّمها أحمد! في هذا الوقت، تَحوّل الملف، في السنوات الأولى من حكم السيسي، إلى مادة تنازع بين رجالاته وأجهزته المتصارعة، وخصوصاً منها «المخابرات العامة» و«الحربية»، قبل أن يُحسم الملف ليكون بيد «العامة» تحت إدارة اللواء عباس كامل. مذّاك، لم يطرأ أيّ جديد، بل طال أمد المفاوضات إلى أن ابتكرت المخابرات آلية العمل التُّساعي التي تضمّ مديري المخابرات ووزراء الريّ والخارجية في مصر وإثيوبيا والسودان، قبل أن ينتهي الأمر بإقصاء كامل من المفاوضات الأخيرة التي جرت بوساطة أميركية في واشنطن. وطبقاً لمصادر مطّلعة، يتحمّل وزير المخابرات الجزء الأكبر من الأخطاء في إدارة المفاوضات؛ فالرجل الذي انفرد بالملف، وأبعد حتى مستشارة الرئيس، الوزيرة السابقة فايزة أبو النجار، من المشهد، لم يستطع أن يقدّم أيّ حلّ عملي للوصول إلى صيغة توافقية.
لاحقاً، جاءت إطاحة نظام عمر البشير لتُغيّر المعادلة؛ إذ برز تقارب غير مسبوق على خطّ الدولتين بين النظام السوداني الانتقالي وإثيوبيا، في وقت استمرّت فيه الخرطوم في إغداق دعم لفظي على مصر، التي أدركت متأخّرة أنها وحيدة في المواجهة. وإذا كانت ثمة إيجابية يمكن تسجيلها للمخابرات، فهي عملها سابقاً على إقصاء باقي دول حوض النيل، التي لديها هي الأخرى تطلّعات إلى تنفيذ مشروعات على مياه النهر، من دائرة الصدام، إذ أن ذلك كَفِل إلى حدّ ما تحسين موقف القاهرة التي عرضت مساندة تنزانيا في بناء سدّ بعيداً عن النيل، فيما جرى تعزيز التعاون وتبادل الزيارات مع بقية دول الحوض، إلى جانب توطيد العلاقات مع جنوب السودان. مع ذلك، وعلى رغم عدم تشكّل تكتّل أفريقي قوي ضدّ مصر، استطاعت الدولة الإثيوبية فرض الأمر الواقع، بعدما نجحت في تمرير شروطها كافة، بداية من اختيار موقع السدّ الذي تقول القاهرة إنه غير مناسب جيولوجياً وبحاجة إلى مزيد من الدراسات، وصولاً إلى التنفيذ، بل وإعلان بدء تخزين المياه داخل البحيرة الخاصة به اعتباراً من الصيف المقبل، لتكون تلك نتيجة تسع سنوات من التفاوض لم ينجح فيها المصريون في تحقيق أيّ مكاسب. وعلى عكس حديث وزير الخارجية، سامح شكري، عن أن الذهاب إلى التفاوض لا يعني حصول أيّ طرف على كلّ ما يريده، فإن القاهرة ذهبت من دون أن تحصل على أيّ شيء أصلاً؛ فلا موقع السدّ تَغيّر، ولا الدراسات الجيولوجية التي طالبت بها تمّت، وحتى آلية تخزين المياه التي جرى التفاوض عليها لم تُنفذ.

بإعلان أديس أبابا بدء تخزين المياه اعتباراً من الصيف المقبل، تكون مصر إزاء مرحلة جديدة من سياسة فرض الأمر الواقع التي اعتمدتها إثيوبيا منذ البداية. وفيما لا يتجاوز ما يمكن أن تقبله أديس أبابا حالياً تخفيضَ الكميات التي سيجري تخزينها، تَظهر الوساطة الأميركية الأمل الوحيد المتبقّي لمصر لإجبار إثيوبيا على تبديل موقفها، علماً أن هذه الوساطة تبدو خادعة حتى للمصريين. فوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، كان على علم بأن الجانب الإثيوبي لن يوقّع الاتفاقية التي تمّت صياغتها. ومع أن بلاده تدعم الموقف المصري علناً، إلا أنها لم تمارس أيّ ضغط على الإثيوبيين، بل أبدت تفهّماً لموقفهم، إلى حدّ أن الخارجية الإثيوبية ردّت على بيان وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، المكلّف إدارة الملف، بطلبها تصحيح مصطلحات استخدمها (من قبيل «خيبة أمل») في وصف موقف الوفد الإثيوبي الذي لم يذهب في الموعد المحدّد للتوقيع على الاتفاقية الخاصة بتشغيل السدّ بالأحرف الأولى، والتي وقّعت عليها مصر.