القاهرة | إلى ما قبل 2011، كانت الدولة المصرية تمنح يوم «25 يناير» إجازة للعاملين فيها، بمناسبة «عيد الشرطة» الذي يصادف ذكرى استبسال قوات الشرطة في مواجهة قوات الاحتلال الإنكليزي عام 1952 في مبنى محافظة الإسماعيلية، التي رفضت آنذاك إخلاءه، ما أسفر عن استشهاد 50 وإصابة أكثر من 80 في واحدة من أكثر المواجهات دموية في تاريخ الشرطة المصرية. منذ 2012، تحوّل التاريخ ليكون احتفالاً بذكرى الثورة. واليوم، بعد تسع سنوات، عاد التاريخ نفسه ليكون عيداً للشرطة فقط، من دون الحديث عن أيّ مناسبات أخرى، بأمر من الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يبالغ في الاحتفاء بـ«عيد الشرطة» متجاهلاً «يناير» التي أوصلته إلى رأس السلطة بعدما كان لواء في القوات المسلحة يوشك على التقاعد.التجاهل المتعمد للثورة يرتبط برغبة في طيّ صفحتها كلياً، وبداية عصر من الديكتاتورية الجديدة «الناعمة ظاهراً»، وخاصة أن المخاوف من التحرك في الشارع قائمة على رغم القمع غير المسبوق والمستمر، بل صار الموعد مناسبة تستغلها وزارة الداخلية كلّ سنة لإلقاء القبض على أشخاص بتهمة التحريض ضدّ النظام، وتصفية آخرين بعضهم يكونون أحياناً محتجزين قسرياً ويسجنون قبل مدة قصيرة من إعلان وفاتهم. لذلك، كرّم السيسي في احتفالية ضخمة في مقرّ «أكاديمية الشرطة» عشرات الضباط والأفراد، ومنهم أسماء لراحلين تسلّمت تكريماتهم أسرهم، وأسماء أخرى لا تزال في السلطة. وبضربة واحدة، تحوّلت الشاشات لتتغنّى ببطولات رجال الشرطة في مواجهة الإرهابيين من أعضاء جماعة «الإخوان المسلمون»!
تُبدي الدولة اهتماماً كبيراً بالتعامل مع «الداخلية» وتحويل عيدها، الذي يصادف اليوم، ليكون «مناسبة قومية»، متجاهلة «ثورة يناير»، إلى حدّ أن الثورة المنصوص عليها في الدستور لم يعد لها مكان على الإطلاق في أحاديث رجال الدولة. فهؤلاء صاروا يفضلون الحديث عن إنجازات السيسي وقدرته في حماية البلاد وتحسين الاقتصاد، على رغم الأرقام التي تحكي العكس. حتى مَن تَحمّس للحديث عن «يناير» من الكتّاب قُمع ومُنع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو جرى توجيهه إلى انتقاد الثورة وأخطائها التي كادت تدمّر تاريخ البلاد، بداية من غياب القيادة، والفوضى التي عمّت البلاد بعد انهيار الشرطة، وصولاً إلى الصراعات السياسية بين النخب المختلفة، والدعوات إلى التظاهر لاستعراض القوة، والرغبة في محو التاريخ السابق.
الموعد مناسبة تستغلّها «الداخلية» لتصفية باردة لعدد من المعتقلين


مع ذلك، لا تنسى ذاكرة المصريين أنه قبل تسع سنوات كان رجال الشرطة يستخدمون العنف مع المتظاهرين قبل أن تنهار قواتهم، ويفقدوا السيطرة، ويضطروا إلى الهرب وارتداء ملابس مدنية، بل إن جميع القيادات تقريباً الموجودة حوكمت أمام القضاء قبل أن يخرجوا بأحكام براءة، على رغم مسؤوليتهم عن قتل أكثر من ألف شخص على الأقلّ في ثلاثة أيام. والسبب أن أجهزة الدولة محت الأدلة التي تدين رجال الأمن الذين عاد معظمهم، ما بين مستشارين بعد التقاعد الرسمي، أو مكلفين «مهمات استثنائية». عودة لم تكن مقتصرة على رجال «الداخلية»، بل شملت رموز نظام مبارك الذين نجحوا في ترتيب أوضاعهم مع النظام الجديد.
في المقابل، بدأت «الداخلية» استراتيجية جديدة على غرار ما تقوم به «الشؤون المعنوية للجيش» من أجل تحسين صورتها، ليس إعلامياً فقط بل درامياً أيضاً، إذ صدرت تكليفات بتكثيف التعاون مع الفنانين لتقديم تضحيات رجال الشرطة، سواء في مسلسلات أو أغنيات، مع الأخذ بالاعتبار «ضرورة تكثيف المحتوى». وباشر الضباط تواصلاً مكثفاً مع المحطات يتجاوز فكرة الاحتفال بـ«عيد الشرطة» إلى توجيه الضيوف للحديث عن إنجازات وبطولات ربما غالبيتها لم تكن بالصورة التي يُحكى عنها.