تواصل روسيا وتركيا مساعيهما إلى هندسة المشهد الليبي بالتوافق في ما بينهما، في عملية نسج سياسية - دبلوماسية - عسكرية لا تبدو معزولة من بقية الملفات في المنطقة، وخصوصاً منها الملف السوري. روسيا، التي تتطلّع إلى مصالح جيوسياسية في ليبيا، تبدأ من النفط وتمرّ بالسلاح والقمح ولا تنتهي بتوسيع دائرة النفوذ في أفريقيا، لا تمانع الدخول في مقايضات مع تركيا من أجل تحقيق مكاسب على أكثر من ساحة. أما تركيا، فالواضح أن تجربتها الأخيرة في سوريا تغريها بمحاولة استنساخ التوافقات المبرمة هناك مع روسيا، في ليبيا، بما يتيح لها حفظ مصالحها في شرق المتوسط، وفي الوقت نفسه بناء نفوذ سياسي في القارة السمراء. هكذا تتقاطع استراتيجيتا الدولتين في البلد الذي تنهشه الحرب منذ سنوات، لترسم مسار حلّ سياسي بدأت معالمه بالظهور أمس مع احتضان موسكو مباحثات ليبية غير مباشرة أسفرت عن وثيقة لوقف إطلاق النار. لكن هذا المسار لا يزال يبدو هشّاً ومعرّضاً للانهيار، في ظلّ ضغوط على معسكر شرق ليبيا من قِبَل حلفائه الإقليميين من أجل التريّث في الانخراط في هذه الجهود.في تطور سريع في الأحداث، احتضنت موسكو، أمس، مشاورات توقيع اتفاق وقف إطلاق نار بين طرفَي النزاع في ليبيا. وحضر المشير خليفة حفتر ورئيس البرلمان عقيلة صالح ممثلَين عن شرق ليبيا، فيما مثّل غرب البلاد رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق» فائز السراج ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري. وفي مؤتمر صحافي، قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن حفتر وصالح طلبا مهلة يوم قبل التوقيع على الاتفاق، فيما وقّع عليه ممثلو «الوفاق». من جهته، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن الطرفين الليبيَّين طلبا إضافة مواد إلى الاتفاق، من دون أن يوضح طبيعتها. وأكد المشري، بدوره، في تصريح إلى وسائل إعلام محلية، «(أننا) وقّعنا اتفاق وقف إطلاق النار من دون تقديم أيّ تنازلات»، مضيفاً أن التوقيع تمّ «حتى نثبت للعالم أننا نستمدّ إرادتنا من شعبنا وليس من عواصم عربية رافضة لوقف إطلاق النار». ويتقاطع كلام المشري مع معلومات كشفتها وسائل إعلام محلية عن وجود دبلوماسيين إماراتيين في موسكو طلبوا من حفتر تأجيل التوقيع على الاتفاق.
في حال ترسيخ اتفاق وقف النار، فستتولى الأمم المتحدة مراقبة تطبيقه ميدانياً


ويأتي النجاح الدبلوماسي الأوّلي لروسيا وتركيا بعد أشهر من توسيعهما تدخلهما في الصراع الليبي. وكانت موسكو سبّاقة في تأسيس حضور لها في ليبيا، حيث أرسلت مقاتلين يتبعون شركة «فاغنر» الأمنية الخاصة للقتال إلى جانب قوات حفتر، إضافة إلى إرسالها طواقم لصيانة معدّات عسكرية وإزالة الألغام، على رغم أن الرئيس الروسي نفى أخيراً، رسمياً، ارتباط بلاده بأولئك المقاتلين. أما أنقرة، فقد تزامن تدخلها في ليبيا مع إطلاق قوات حفتر هجومها للسيطرة على العاصمة طرابلس في 4 نيسان/ أبريل الماضي. وعزّزت تركيا وجودها تدريجياً، عبر إرسال طائرات مسيّرة ومدرعات وأسلحة أخرى، ثمّ عبر عقد حزمة اتفاقات مع حكومة «الوفاق» أفضت إلى إقرار البرلمان التركي إمكانية نشر قوات في ليبيا لمدة عام قابلة للتمديد. لكن، لم ترسل أنقرة مقاتلين ميدانيين، بل اكتفت بإيفاد مختصّين ومدربين أتراك، فيما أوكلت مهمة الإسناد الميداني إلى قوات موالية لها من الجماعات السورية المسلحة.
ويرى مراقبون أن النجاح الدبلوماسي لدولتين، كانتا على هامش الملف الليبي حتى وقت قريب، يمثل إحراجاً للقوى الغربية، وخصوصاً منها الأوروبية التي احتكرت سابقاً النشاط الدبلوماسي المرتبط بليبيا. وحاولت فرنسا، سابقاً، البحث عن حلّ ليبي، حيث جمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بين السراج وحفتر في مناسبتين. وبذلت إيطاليا، بدورها، مساعي مماثلة عبر عقد اجتماع دولي في مدينة باليرمو، حضره أيضاً الرجلان الأبرز في المشهد الليبي. لكن كلّ تلك الجهود لم تسهم في الخروج بنتائج إيجابية، إذ كان يتمّ الاتفاق في كلّ مرة على إيقاف التحركات العسكرية وإتاحة المجال لمصالحة ووضع خريطة طريق لحلّ سياسي، من دون أثر فعلي. ولا تزال الدول الأوروبية تبحث عن مكان لها في الصورة. وفي هذا السياق، التقى رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، أمس، بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أنقرة، حيث عبّر كلاهما عن تفاؤله بالمسار الذي تحتضنه موسكو. ومن المنتظر أن يزور كونتي، اليوم، مصر، ليلتقي بالرئيس عبد الفتاح السيسي لمناقشة العلاقات الثنائية والملف الليبي. بالتوازي مع ذلك، التقى وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، أمس، الرئيس التونسي قيس سعيّد، في تونس. وشدّد دي مايو على ضرورة دعوة تونس وجميع دول جوار ليبيا إلى مؤتمر برلين، الذي لم تُدعَ إليه إلا مصر والجزائر من دول الجوار. وعملت ألمانيا، في الفترة الأخيرة، على التسريع في موعد عقد المؤتمر الذي كان يجري تجهيزه منذ نهاية العام الماضي. وأعلن المتحدث باسم الحكومة الألمانية، أمس، عقد المؤتمر في التاسع عشر من الشهر الجاري. وفي حال ترسيخ اتفاق وقف النار، عبر توقيع ممثلي شرق البلاد عليه، فستتولى الأمم المتحدة مراقبة تطبيقه ميدانياً، بحسب ما تشير إليه المعلومات الواردة من موسكو، مع العمل على إيجاد صيغة تتقاسم عبرها حكومة «الوفاق» والبرلمان وقوات حفتر المسؤوليات السياسية والعسكرية، إلى حين استئناف المسار السياسي. وبناءً على ذلك، ستتحدّد أدوار مؤتمر برلين، والتي ستتمحور جميعها حول استدامة السلام ووضع آليات لترجمة بنود الاتفاق إلى إجراءات عملية.