بمواجهة إعلان «المحكمة الجنائية الدولية» نيتها فتح تحقيق شامل في جرائم الحرب الإسرائيلية، تخرج ردود الفعل، الرسمية وغير الرسمية، بما يشير إلى فقدان أدوات المواجهة القضائية. وعدا الصراخ ولعب دور الضحية، يأتي الاتكال الأكبر على الحليف الأميركي الذي أعلن في الماضي، وكذلك أمس، أنه لن يسمح بإدانة إسرائيل أو وضعها موضع الاتهام، سواء في «الجنائية» في لاهاي أم غيرها من المؤسسات الدولية. على هذه الخلفية، ارتفع الصوت في تل أبيب. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، قال إن المحكمة تحوّلت إلى سلاح في الحرب السياسية ضد إسرائيل، و«هذا هو يوم أسود للحقيقة وللعدالة»، مضيفاً: «القرار لا يعدو كونه مظهراً من المسرحية الهزلية، يتنافى ومبادئ المحكمة الدولية نفسها التي أقيمت بعد فظائع الحرب العالمية الثانية»! وإن شارك معظم السياسيين في تل أبيب في حملة الانتقادات إلى جانب نتنياهو، مع استنساخ للعبارات وسلّة الاتهامات ضد المحكمة وقضاتها، فإن اللافت هو المعادلة التي طالب بتنفيذها عضو «المجلس الوزاري المصغر» الوزير بتسلئيل سموتريتش الذي أكد كل الاتهامات عبر المطالبة بالمزيد منها لمنع المحاكمة عن إسرائيل: «يجب إمهال السلطة الفلسطينية 48 ساعة لسحب دعواها فوراً، التي يدرك الجميع أنها هيئة معادية للسامية. في حال لم تمتثل السلطة، على إسرائيل أن تهدم كل يوم قرية فلسطينية مقابل ذلك، إلى أن ترضخ وتسحب الدعوى».أما إزاء المحكمة وإمكانات بدء التحقيقات، وموقف إسرائيل وخشيتها، فيمكن الإشارة إلى ما يأتي:
ــــ لم يصدر عن «الجنائية» قرار بإدانة إسرائيل، أو بقبول الدعوى ضدها، بل إحالة من الادعاء العام إلى المحكمة الابتدائية في المحكمة نفسها، للاستفهام عن الصلاحية وإن كانت تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة، رغم إعلان رئيسة الادّعاء، القاضية الغانية فاتو بنسودا، «وجود أساس معقول لمواصلة التحقيق». معنى ذلك، أن الدعوى والتحقيقات التي ستسبقها مبنية على أسس متينة في المضمون، تمكّن من ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين عنها، لكنها من ناحية الدفوع الشكلية، مثل دفوع الصلاحية وصفة الادعاء الفلسطيني وغيرها، قد تكون مدار أخذ ورد.
ــــ كما يبدو، تعمل بنسودا على نقل المسؤولية عن بدء التحقيق، إن حدث بالفعل، لتشمل قضاة المحكمة بدل أن تتحمل وحدها المسؤولية، التي قيل فيها الكثير أخيراً، ومن بينها تهديد أميركي بعقوبات ضد القضاة إن تجرؤوا على ملاحقة إسرائيل، مهما كانت التهمة وركيزتها الجرمية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة سحبت في نيسان/أبريل الماضي تأشيرة دخول بنسودا إلى نيويورك، في إطار الضغط عليها، على خلفية متابعة مسار ملاحقة جنود وضباط أميركيين بتهم جرائم حرب في أفغانستان، كانت قد طلبت من «الجنائية» الإذن بفتح تحقيقات حولها.
ــــ مع ذلك، يصعب اقتصار تفسير «فتح مسار» التحقيقات على مركبات الدعوى التقنية والقانونية والإجرائية، خاصة بعد سنوات خمس على تقديم الدعوى من دون النظر فيها عملياً. ومن بين الأسباب غير الظاهرة، لا يبعد ارتباطها بتجاذب سياسي دولي خارج المحكمة في لاهاي، بين عواصم قرار درجة أولى (الولايات المتحدة)، وعواصم قرار درجة ثانية (أوروبا)، ترى نفسها متضرّرة من توجهات أميركية لحل القضية الفلسطينية عبر تصفيتها. على هذه الخلفية، أيضاً، يأتي التحرك الأميركي المضادّ للمحكمة، كما يرد من واشنطن، بل بعبارات حادّة غير ملطّفة ضد المحكمة وقضاتها، إذ أن المسألة تتجاوز «الخط الأحمر» الاعتيادي الذي تفرضه الإدارة الحالية في منع إدانة إسرائيل أو «تلطيخ» سمعتها دولياً، بل تمس توجهات أميركية عبر فرض خطة «صفقة القرن» المبنية على تأبيد الاحتلال وشرعنته، وهو ما يتناقض مع ما تنظر فيه المحكمة، حتى إن لم يصدر عنها حكم نهائي إزاءه، إذ تكفي إثارة مسألة الاحتلال والأراضي المحتلة للإضرار بالتوجهات الأميركية إزاء المنطقة و«صفقة القرن».
ــــ من ناحية إسرائيل لا جديد في أن تنظر «الجنائية الدولية» في قضايا ترتبط بالاحتلال. سبق للمحكمة أن تعاملت عام 2003 مع طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في استشارة (دعوى) أثيرت ضد إقامة جدار الفصل في الضفة المحتلة. آنذاك، كانت هستيريا إسرائيل مشابهة للهستيريا الحالية، وصدر عن رئيس حكومة العدو آنذاك، أرييل شارون، ما يبدو شبه تطابق مع ما يرد عن تل أبيب الآن ضد المحكمة: «هي حملة نفاق تجري ضد إسرائيل في السيرك الدولي في لاهاي». في ذلك اليوم، التاسع من تموز/يوليو 2003، صدر عن المحكمة قرار بأنه يتعيّن على إسرائيل أن توقف بناء الجدار، بما في ذلك في القدس، والعمل على تفكيك الأجزاء المبنية وتعويض جميع الخسائر الناجمة عنه، لكن إلى الآن لا أثر عملياً للقرار، وبات فقط، كما هي كل القرارات الصادرة ضد الاحتلال، ذكريات لـ«نجاحات عربية» تتعلق بالعلاقات العامة، سقطت من الذاكرة لدى كثيرين.
ــــ مع ذلك، الضرر الناتج عن مسار الدعوى لا يرتبط فقط بإمكان أو لا إمكان صدور قرار نهائي يدين الاحتلال ويطلب تصحيح مظلومية الفلسطينيين. المسألة هنا، إسرائيلياً، ترتبط بظرف حسّاس جداً، من شأنه التأثير في مجموعة واسعة من المصالح والمخططات التي يُعمل عليها في المنطقة، ومن بينها إمكان إعلان الحلف مع عدد من الدول العربية والتقارب والتطبيع النهائي معها. ومن ناحية ثانية، ترفض إسرائيل، رغم احتلالها وفظائع الحرب ضد الفلسطينيين، أي عامل خارجي على الحلبة الدولية، مهما كان تأثيره ومستواه، قد يشوّش على صورتها التي تريد أن تبقى كما عملت عليها منذ إنشائها: «المظلومة» والملاحقة دائماً من أعدائها «الخارجين على القانون» الساعين دائماً إلى تدميرها وتنفيذ «هولوكوست جديد» ضد اليهود من سكانها. الأمر الذي يستدعي العمل سريعاً على منع صدور قرار عن المحكمة من شأنه أن يسلب منها صورة «الضحية» التي طالما عملت على بقائها حية للاستفادة الدائمة منها.
المسألة تمسّ التوجهات الأميركية في «صفقة القرن» ونتائجها المتوقّعة


ــــ تدرك تل أبيب أن الدعوى والتحقيقات حولها ستدينها، وإن كان الأرجح أن يصدر قرار الإدانة «حمّال أوجه»، الأمر الذي يدفعها إلى التمسك بالدفوع الشكلية عبر التركيز على صلاحيات المحكمة التي تقول إنها لا تسري على الأراضي المحتلة، وكذلك على النقص في صفة الادّعاء الفلسطينية، كون السلطة غير دولة مكتملة العناصر. لكن في المضمون لا تنكر إسرائيل أنها نفذت جرائم حرب في الأراضي المحتلة، وهو ما لم يرد في أي من «صراخها» في اليومين الماضيين، بل تركز على لا شرعية وصلاحية تفويض «الجنائية» في التحقيق مع جنودها وضباطها ومحاكمتهم، عبر اتهام المحكمة بالتسييس. وتدرك تل أبيب أيضاً أن القضية إن وصلت إلى حد قبول الدعوى، وبدء تصدير مذكّرات الجلب للتحقيقات، فستكون قاسية جداً على عدد كبير من الجنود والضباط، وكذلك السياسيين. وهي ستكون أمام ملاحقات قضائية ودعاوى مختلفة، يفترض بأكثر من مئة دولة موقّعة على اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة أن تكون شريكة في إجراءاتها ضد إسرائيل.
من هنا، لا يبقى أمام إسرائيل إلا الانتقادات الحادة والطعن في شرعية المحكمة والمحاكمة والمدّعين، مع الرهان الكامل على الولايات المتحدة، في التأثير المباشر أو من خلف الكواليس، في قرار الغرفة الابتدائية لمنع التحقيقات، وإن أخفقت، ففي منع تأثيراتها الفعلية على الحلبة الدولية. مع ذلك، يأتي قرار الادّعاء العام في ظرف حسّاس جداً من ناحية إسرائيل، ويثير أكثر من علامة استفهام إزاء سلة الأسباب الدافعة لتحريك القضية، التي لا يبدو أنها، فقط، مسألة تقنية وقانونية.