دمشق | تغيّرت معالم الطريق في اتجاه منطقة السيدة زينب في ريف دمشق. شيئاً فشيئاً، تظهر آثار الدمار على جانبي طريق مطار دمشق الدولي الذي لم يكن آمناً قبل أشهر.
يروي السائق مغامراته هنا، وبينها نجاته من عمليات القنص، حيث كانت السيارات تعبر أحياناً بسرعة جنونية تفادياً للقنص، فضلاً عن قذائف الهاون التي أمطرت الطريق ومنطقة السيدة وجوارها.
رغم ذلك، لم يغلق طريق المطار يوماً أمام المارة. يميناً، تتكشف هياكل ما تبقى من مبان. هنا دارت معارك عنيفة قبل أن يبسط الجيش سيطرته على الذيابية وسبينة وحجيرة. في الجهة المقابلة، تقع حتيتة التركمان والغزلانية وشبعا وغيرها من البلدات.
يستوقفك «حاجز المستقبل» قبل دخول منطقة السيدة زينب. إجراءات أمنية مشدّدة كما في سائر المناطق. لكن لهذه المنطقة التي تحوي المقام خصوصية، لا سيّما أنها كانت مهدّدة منذ بداية الحرب باستهدافها واستهداف المقام من قبل الجماعات المسلّحة المعارضة.
شعارات هنا رفعت ضد المذهبية وتقسيم سوريا. 200 متر وتقطع الحاجز الثاني، ومن ثم الثالث والأخير قبل دخول المقام المقدّس.
مقاتلون بلباسهم العسكري يمرّون تباعاً بين الفينة والأخرى، يرفعون أياديهم باتجاه السيدة زينب للدعاء، ويمضون في طريقهم. صور شهداء قادة المقاومة الميدانيين الذين سقطوا دفاعاً عن مقام السيدة زينب تزيّن الجدران.
هنا أم فقدت ابنها، وتلك فقدت زوجها، وأخرى الاثنين معاً... إحدى الزائرات من لبنان ترفع يديها لتطلب طلباً واحداً فقط: «دخيلك احميلنا هالشباب». لا تستغرب الحالات التي تشاهدها هنا، فالحرب المستمرة خلّفت آلاف القصص المأسوية التي لا تنتهي. واقع الحرب أضاف أيضاً الى الطرقات وجدران المباني صور شهداء سقطوا دفاعاً عن أهالي المنطقة.
لكن أمام هذا المشهد، لا يخلو مقام السيدة من زواره الذين انقطعوا عنه لمدة طويلة.
زوار «من السعودية والبحرين والكويت، رغم القرار الأخير الذي أصدرته الدولة، وهو الحصول على موافقة أمنية لكل مواطن خليجي يزور سوريا.
لكن غالبية الزوار يأتون من العراق وإيران ولبنان»، يرد أحد العاملين في المقام.
بعضهم أتى للمرة الاولى بعد الحرب. ورغم تفاجئهم بآثار الدمار، لم يتوقعوا أن يشاهدوا «زحمة الزوار»، تقول إحدى الزائرات العراقيات.
سياحة ونزوح معاً
تنتشر المحال التجارية في الأحياء المتداخلة. حركة الاكتظاظ ليست كما في «عصر الازدهار». لكن اليوم، ومع تأمين طريق المطار بالكامل وفتح الباب أمام الزوار، «أصبحت الحركة أفضل والاحوال تتحسّن تباعاً»، يقول أحد أصحاب المحال، معلّقاً «الناس تشاهد الحرب والمعارك عندنا، وطبيعي أن يخافوا».
لكن سمير الذي يبيع تذكارات دينية وهدايا، متفائل بسبب عودة الزوار الى المقام بوتيرة أعلى من السابق «الناس تأتي أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وهذا جيد».
في السوق المكتظة بناسها ومحالها التجارية على جانبي الطريق، لصور القادة السياسيين حصّتهم، في المنطقة التي يؤيّد سكانها النظام السوري وحزب الله؛ فترى صور الرئيس بشار الاسد في كل مكان الى جانب صور الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله.
تلفتك صورة أخرى مركّبة فوق أحد المحال لكل من الرئيس الاسد والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الايراني حسن روحاني والسيد نصرالله وضعت عليها عبارة «رجال لا يركعون إلا لله»، تقدمة أحد وجهاء المنطقة. يعلّق أحد الشبان على الصورة، ساخراً: «على أساس بوتين ما بقفّي ولا ركعة!».
بعض المطاعم القليلة جداً تفتح أبوابها أمام الاهالي. أمّا الفنادق التي أغلقت عند اندلاع الحرب، فاتّخذ النازحون منها غرفاً مؤجّرة لهم، ما زاد من كثافة الحركة السكانية في المنطقة. لكن هناك بعض الفنادق التي تعدّ على الاصابع لا تزال تستقبل الزوار فقط.
غالبية النازحين هربوا من درعا ودير الزور وإدلب وحلب، بحسب أحد المسؤولين في اللجان الشعبية، الذي يشرح أن «حوالى 90 في المئة من الرجال النازحين التحقوا باللجان»، أما البعض الآخر «ففتح محال تجارية لبيع الالبسة وغيرها». هؤلاء لديهم رواتب شهرية، فيما تحصل كل عائلة نازحة يواجه أفرادها صعوبة في إيجاد عمل أو الالتحاق باللجان الشعبية لأسباب صحية، على مرتب شهري وقدره عشرة آلاف ليرة من جمعيات خيرية معنية بمتابعة أوضاعهم، بحسب
المسؤول.
«نحن وحزب الله منعنا الفتنة»
لم يعد خافياً وجود مقاتلي حزب الله في سوريا. غالبية الرجال هنا حملوا السلاح منذ بداية الازمة، والتحقوا باللجان الشعبية والجيش السوري. «كنا محاصرين من كل الاتجاهات، لم يكن لدينا أي حل آخر»، يقول نزار، أحد المقاتلين في اللجان الشعبية، مضيفاً، «ما في شي اسمو بالقتال من أي مذهب إنت. عدوّنا واحد، نحنا والشباب الذين استشهدوا منعنا الفتنة المذهبية، لولا رجال الله كنا قلنا باي باي. نحنا وحزب الله منعنا الفتنة».
تحوّل الصراع في سوريا الى صراع طائفي بين «الروافض» والسنّة بسبب الخطاب التكفيري، وهو خطاب لم يكن موجوداً في سوريا يوماً.
هذا الأمر، خصوصاً في منطقة السيدة زينب، التي لطالما هدّد هؤلاء باستهدافها، حتّم على الكثيرين أن يبادروا إلى التحدّث عن هذه المشكلة ليبدوا امتعاضهم ممّا آلت إليه الامور. «عايشين سوا من وقت ما خلقنا، الصراع مش سني ــــ شيعي، هذا ما يريدونه»، يقول أحد العسكريين، الذي جال معنا في عدد من الأحياء، ليضيف: «للأسف في مكان ما نجح هذا المخطط، لكن هنا لا فرق بين سنّي وشيعي. كلنا سوريون بوجه التكفيري».
عماد، وهو من بين الذين قاتلوا في اللجان الشعبية أيضاً، يروي لنا عن بداية الازمة، كيف أن بعض السكان «الذين لا دين لهم رحلوا نهائياً عن المنطقة، افتعلوا المشاكل وأتقنوا اللعب على الوتر المذهبي. كنا نستيقظ ونرى علامة «إكس» على المنزل دليلاً على التمييز بين السنّي والشيعي».
مقاتل آخر (من اللجان) يعلّق «اكتسبنا خبرة قتالية كبيرة منهم (حزب الله)، ووقفوا الى جانبنا وساعدونا كثيراً». أمّا زميله فيشدّد على أنه «لولا تدخّل مقاتلي الحزب كانت خربت المنطقة، صانوا أهالينا وأعراض نسائنا بدمائهم».
بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب، ورغم بشاعة المجازر الطائفية التي ارتكبت، تبقى أم محمد، الأم الدمشقية المسنّة التي لم تفارق مقام السيدة زينب يوماً، تمثّل كثيرين في سوريا ممّن يعتبرون «مقام السيدة للجميع ولكل الطوائف، متل كل المقامات المقدّسة... هيدي سوريا».
هذا الخطاب اللاطائفي شدّد عليه أمس مفتي سوريا الشيخ أحمد بدر الدين حسون، من مقام السيدة زينب، في الاحتفال الذي أقيم في ذكرى ولادتها، إذ قال: «إننا سنقول للعالم تريدون طوائف ونحن نريد أمة، تريدون مذاهب ولكن نتسابق بالحب»، مضيفاً «لو تخلى الرئيس السوري بشار الاسد عن المقاومة وعن فلسطين والقدس لأوقفوا الحرب عليه، ولكنه لو تخلى لكان ذليلاً، فأبى لينال العزة».

يمكنكم متابعة رشا أبي حيدر عبر تويتر | @RachaAbiHaidar