شرّعت استقالة عادل عبد المهدي أبواباً موصدة. أمنٌ هشٌ وارتباكٌ سياسي، وترويج البعض لـ«التقسيم»، تزامن في وقتٍ متأخرٍ من ليل أمس مع هجومٍ شنّه تنظيم «داعش» في ديالى، شرق البلاد. «الجنون»، لا غيره، يعصف بالمحافظات الجنوبية؛ قدسية «النجف» وحرمة القبور هشّمتها مجموعات تخريبية تعمل وفق أجندات سياسية، تستثمر المشهد المربك، لتكريس الميدان العراقي ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. القوى السياسية تبحث عن وجهٍ توافقي للملمة الأزمة، والإعداد لانتخابات مبكرة، من شأنها حسم مستقبل الوجهة السياسية لـ«بلاد الرافدين».
حكومة تصريف الأعمال، برئاسة عبد المهدي، تعمل لـ 30 يوماً، قبل أن تُنقل صلاحياتها إلى رئيس الجمهورية(أ ف ب )

إنها الفوضى الأمنية والإرباك السياسي. العاصمة العراقية بغداد تعيش لحظات حرجة، وتخوّف من انهيار أمني يطال معظم المحافظات الجنوبية. «الفتنة» الأمنية ــ السياسية، والتي حُذّر منها سابقاً، وحاول بعض القوى السياسية ــ أي حلفاء طهران ــ استيعابها، إلى جانب الحكومة الاتحادية المستقيلة برئاسة عادل عبد المهدي، لا تزال سارية المفاعيل. قوى داخلية وأخرى إقليمية ــ دولية، أجادت «امتطاء» الحراك المطلبي المستمر منذ 1 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي. «هذه القوى تقود البلاد إلى المجهول»، بتعبير مصدرٍ أمني، يؤكّد في حديثه إلى «الأخبار» أنها «أوعزت إلى أدواتها المحلية باستثمار استقالة عبد المهدي، وإشعال مدنٍ محدّدة ــ أي مدينة النجف (جنوبي العاصمة) مقرّ الحوزة الدينية»، للضغط أكثر على «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، من دون أن يغفل المصدر أن هدفها «ليس ضغطاً بل إلحاق الأذى بالمرجعية»، في خطوة «مجنونة» من شأنها مباشرة جرّ «الشارع الشيعي إلى اقتتال بين أطرافه».
هذه «الهواجس»، المسيطرة على دوائر قرار العاصمة، والقوى المؤثرة في المشهد السياسي، خلصت إلى أن الرياض وأبو ظبي مستمرتان في تقديم الدعم المالي واللوجستي (وتحديداً على مستوى الجيوش الإلكترونية) للمجموعات المخرّبة، المنتشرة في الساحات الجنوبية إلى جانب قوى دينية متطرّفة مموّلة بريطانيّاً، وجمعياتٍ تعمل بتوجيه من السفارة الأميركية في بغداد، لـ«خلق الفوضى ونشرها في معظم المساحات الممكنة». كل ذلك، وثمة أطراف داخليون، وتحديداً «التيّار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر، يستثمرون هذه اللحظات لتصفية حساباتهم المحلية والإقليمية، بالتزامن مع ارتفاع خطابٍ في شمال البلاد وغربها، يقضي بضرورة «التضامن مع الثورة الشيعية». إلا أنّ الهدف ــ وفق مصادر سياسية عديدة ــ محاولة بعض القوى استثمار تناقضات «البيت الشيعي»، لفرض نفسها في التركيبة الحكومية المقبلة على قاعدة «الأمر الواقع»، في خطوةٍ من شأنها تعقيد المشهد أكثر. لكن، ثمة من يذهب إلى القول إن «هذه المطالب أقرب إلى أن تكون حفاظاً على أمن تلك المحافظات، وجعلها كإقليم كردستان، منفصلة والحجّة أسباب أمنية».
وما يزيد من التشاؤم، تزايد المخاوف من انفلات ما تبقى من «الاستقرار الهش»، خصوصاً أن النجف تحديداً شهدت في الساعات الماضية «حفلة جنونية»، لم تستطع القوى الأمنية ضبطها، إلا «بشقّ الأنفس»، وتسعى إلى الحفاظ على ذلك مع «ترجيحٍ بتدهور الأوضاع في الساعات المقبلة»، كما ينقل مصدر أمني رفيع المستوى. ولكن، في المقابل، ثمة من يراهن على دور العشائر الملتزمة بقرار «المرجعية»، والمساهمة في ضبط الوضع الأمني، والحيلولة دون سقوط المزيد من القتلى والجرحى في صفوف المتظاهرين والقوات الأمنية، التي تعيش حالة من التخبّط الكبير لناحية القرار والتوجيه، والقدرة على «استيعاب الموقف».
سيواجه الرئيس المقبل «انتحاراً» سياسياً لناحية دقّة المرحلة وخطورة التحديات


كل ذلك والدولة بلا رئيس وزراء، إنما بإدارة حكومة تصريف أعمال لمدة 30 يوماً، قبل أن تُنقل صلاحياتها إلى رئيس الجمهورية وفق ما نصّ عليه الدستور. عملياً، أمام القوى السياسية، وتحديداً «البيت الشيعي»، 15 يوماً لاختيار الرئيس المقبل. معلومات «الأخبار» تشي بأن «الأسماء/ الخيارات لم تطرح بعد»، فالنقاشات دائرة حول مواصفات الرئيس ودوره وصلاحياته ومهامه. ووفق المعلومات، فإن المعيار الرئيس لـ«حاكم بغداد» هو «الحزم والشجاعة»، الأمر الذي سبق أن تطرّقت إليه «المرجعية» في أحد بياناتها في تموز/ يوليو 2018، قبيل تسمية عبد المهدي رئيساً للوزراء. فالمرحلة المقبلة تتطلّب حزماً وقوّةً، أقلّه من الناحية الأمنية، لضبط انفلات الميدان العراقي، الذي بات ساحة لتصفية الحسابات المحلية والإقليمية والدولية. وتضيف المعلومات أن الرئيس المقبل يجب أن يكون مستقلاً وبعيداً عن أي طرف، يحظى بإجماع الكتل السياسية ورضا «المرجعية»، مع الأخذ بعين الاعتبار حساسية الموقع لناحية علاقات العراق الإقليمية والدولية.
ويجري الحديث، أيضاً، عن ضرورة اختيار وجوه ليست صفّاً أول، بل من «الصف الثاني»، وتمتّع الرئيس بصلاحياتٍ واسعة بعيداً عن الضغوط السياسية الحزبية والطائفية، لأن مهمته الوحيدة ستكون إجراء انتخابات نيابية مبكرة في العام المقبل، بعد إقرار البرلمان لقانون الانتخابات التشريعية.
عملياً، سيواجه الرئيس المقبل «انتحاراً» سياسياً، لناحية دقة المرحلة وخطورة التحديات التي يواجهها، بتعبير أكثر من مصدرٍ سياسي مطّلع؛ هذا «التقدير» قد يدفع بعض المرشحين إلى «رفض تحمّل المسؤولية، ورفض تكليفه»، وهو ما ترجمته كتلتا «سائرون» المدعومة من زعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر، و«النصر» بزعامة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، برفض تسمية المرشح، في خطوة قد تنتهجها قوى أخرى، على قاعدة «إنهاء المحاصصة الحزبية والطائفية، والتنازل عن هذا الحق للمتظاهرين»، بتعبير «سائرون»، التي أضافت في بيانها أن «الشعب هو خيارنا وعلى رئيس الجمهورية مراعاة ذلك».
ورغم تفاؤل الأمين العام لـ«حزب الدعوة الإسلامية» نوري المالكي، بـ«سقوط القناع عن مؤامرة الفوضى الخلّاقة ومن يقف وراءها ممن هم خارج الحدود»، والتأكيد «على انتصار الإرادة التغييرية السلمية وانتهاء الأيام الصعبة»، فإن القوى السياسية ما زالت عاجزة عن لملمة شتاتها، وقد بدا ذلك خلال اجتماعات ممثليها، في الساعات الماضية، مع الرهان على أن يتمكّن البرلمان، هذا الأسبوع، من مناقشة قانوني الانتخابات والمفوضية، وإقرارهما.