بغداد | أخيراً، رضخ رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، لدعوات تنحّيه عن منصبه، بعد عام عصيب مشلول من عمر حكومته، انتهى على وقع الاحتجاجات المطلبية، والمستمرة منذ أكثر من شهرين، وسقوط مئات الضحايا وآلاف الجرحى. فما الذي أسهم في كون عبد المهدي أضعف شخصية تولّت رئاسة الحكومة العراقية؟ ربما يقودنا هذا التساؤل إلى أساس العملية السياسية المثيرة للجدل وجوهرها. فالنظام البرلماني «المحاصصاتي» أضحى ساحةً للفوضى، ولم يستفد العراقيون منه بشيء، باعتراف زعيم «تحالف الفتح» هادي العامري. قيّدت المحاصصة الحكومة، وقوّضت عملها إلى الحدّ الذي جعل عبد المهدي يقف عاجزاً أمام وزير يتوسّل الإقالة، متحدّثاً عن ضغوطات تمارَس عليه من قِبَل جهات لا تريد التقدم لقطاع مهم ينخره الفساد، وهو القطاع الصحي! لم يحرّك رئيس الوزراء ساكناً أمام استقالتين متتاليتين لوزير الصحة السابق، بُرّرتا بأسباب تستوجب قرارات مزلزلة، لكنه لم يفعل!جانبٌ آخر لا يقلّ أهمية، يتعلق بالكيفية التي تسنّم بموجبها عبد المهدي وزارته، والتي جلّاها ردّه المُوجَّه أخيراً إلى زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، في خضمّ مراسلات جرت بينهما أمام الرأي العام. إذ خاطب عبد المهدي الصدر بنص صريح قائلاً: «اتفق أنت مع العامري على بديل مناسب، وسأترك منصبي حينها»، ما يعني إقراراً بالتوافق الذي جاء به، وما استتبعه من قيود. كان لافتاً هروبه إلى الأمام في مواقف كثيرة: يخشى تصادماً مع الجارة إيران، ويتفادى في الوقت نفسه مجابهة الولايات المتحدة. داخلياً، لم يكن الحال مبشّراً في العام الأول من عمر حكومة زادت من احتقان الشارع. موازنة العام الحالي الهائلة لم تفلح في الحدّ من البطالة أو خلق وظائف للعاطلين من حَمَلة الشهادات، وهو الخطر الأكبر الذي يهدد الأوامر الديوانية التي صدرت أخيراً بتعيين المئات في ملاك الدولة، خاصة أن الحكومة المقبلة - إن أبصرت النور - قد تبطل أغلب القرارات السابقة أو أجمعها. لم يفلح رئيس الوزراء في إحالة متهمين بالفساد على القضاء، على رغم تشكيله مجلساً أعلى لمكافحة الفساد، ساهم هو الآخر في تشتيت جهات الرقابة ولم يقدّم شيئاً ملموساً. حجم الضغوطات أثّر أيضاً في شفافية عبد المهدي؛ إذ تحدث الأخير بملء الفم عن نِسَب الإنجاز للوزارات ضمن البرنامج الحكومي، الأمر الذي خالفه الواقع. منذ تكليفه حتى اليوم، ماذا تحقّق من محاسبة الفاسدين؟ أو تأهيل للبنية التحتية والشوارع والطرق والجسور؟ أو حلّ لمشكلة الأعداد الهائلة من العاطلين وأزمات الكهرباء والماء والفقر والإسكان؟ باختصار، إنها نسب ضئيلة جدّاً، ولا ترتقي إلى ما تحدّث عنه الرجل في برنامجه الوزاري.
سقط عبد المهدي في فخّ خداع الكتل السياسية، التي تتحدث بهموم الشعب وترفع شعارات المظلومية لِمَن تمثّلهم، لكنها تتقاتل على غنائم الدرجات الخاصة والعامة على حدٍّ سواء، كلّ حسب حصته. هي - أي القوى السياسية - لم تراجع موقفها مطلقاً، إلا بعد وصول الاحتجاجات ذروةً هدّدت وهزّت أركان النظام السياسي، وفقاً لما أدلى به رئيس الوزراء المستقيل في أحد خطاباته. لكن وبعد الذي جرى أمس، هل سنعود إلى مربع «الكتلة الأكبر» غير واضحة المعالم إلى الآن؟ لقد دخلنا في مرحلة فوضى ربما تقود إلى فراغ رهيب، ما لم يحدث العكس.